السبت، 27 يوليو 2013

مقدمة سورة الزمر

سيد قطب
 
هذه السورة تكاد تكون مقصورة على علاج قضية التوحيد. وهي تطوف بالقلب البشري في جولات متعاقبة؛ وتوقع على أوتاره إيقاعات متلاحقة؛ وتهزه هزاً عميقاً متواصلاً لتطبع فيه حقيقة التوحيد وتمكنها، وتنفي عنه كل شبهة وكل ظل يشوب هذه الحقيقة. ومن ثم فهي ذات موضوع واحد متصل من بدئها إلى ختامها؛ يعرض في صور شتى.

          ومنذ افتتاح السورة تبرز هذه القضية الواحدة التي تكاد السورة تقتصر على علاجها: )تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين. ألا للهِ الدينُ الخالص..( الخ.. وتتردد في مقاطعها على فترات متقاربة فيها إما نصاً، وإما مفهوماً.. نصاً كقوله: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاص له الدين. وأمِرت لأن أكون أول المسلمين. قل إني أخاف إنْ عصيتُ ربي عذاب يوم عظيم. قل اللهَ أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه..) الخ..  أو قوله: (قل أفغيرَ اللهِ تأمرونّي أعبد أيها الجاهلون. ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبل لئن أشركتَ ليحبطن عملك ولتكوننّ من الخاسرين. بل اللهَ فاعبد وكن من الشاكرين).

          ومفهوماً كقوله: (ضربَ اللهُ مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سَلَماً لرجلٍ هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون).. أو قوله: (أليس اللهُ بكافٍ عبده ويخوِّفونكَ بالذين من دون، ومن يضلل اللهُ فما له من هادٍ ومن يهدِ اللهُ فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام)..

          وإلى جانب حقيقة التوحيد التي تعالج السورة أن تطبعها في القلب وتمكنها نجد في السورة توجيهات وإيحاءات لإيقاظ هذا القلب واستجاشته وإثارة حساسيته، وإرهافه للتلقي والتأثر والاستجابة. ذلك كقوله: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشرْ عبادِ. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب).. (الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانيَ تقشعر منه جلودُ الذين يخشون ربَّهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد).. (وإذا مسَّ الإنسانَ ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوَّله نعمة منه نسيَ ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار)..

          وهناك ظاهر ملحوظة في جو السورة.. إن ظل الآخرة يجللها من أولها إلى آخرها. وسياقها يطوّف بالقلب البشري هناك  في كل شوط من أشواطها القصيرة؛ ويعيش به في ظلال العالم الآخر معظم الوقت! وهذا هو مجال العرض الأول فيها والمؤثر البارز المتكرر في ثناياها. ومن ثم تتلاحق فيها مشاهد القيامة أو الإشارة إليها في كل مقطع من مقاطعها الكثيرة. مثل هذه الإشارات: (أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذرُ الآخرةَ ويرجو رحمةَ ربه).. (قل إني أخاف إن عصيتُ ربي عذابَ يومٍ عظيم).. (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار).. (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يومَ القيامة).. (ولَعذابُ الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون(.. )أليس في جهنم مثوىً للكافرين).. (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون).. (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون. واتبعوا أحسن ما أنزِل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتةً وأنتم لا تشعرون. أن تقول نفسٌ يا حسرتا على ما فرّطتُ في جنبِ الله وإن كنتُ لمن الساخرين. أو تقول لو أن الله هداني لكنتُ من المتقين. أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرةً فأكون من المحسنين..).. وهذا غير المشاهد الكاملة التي تشغل حيزاً من السورة كبيراً، وتظلل جوها بظلال الآخرة.

          أما المشاهد الكونية التي لاحظنا كثرتها وتنوعها في السور المكية في ثنايا عرضها لحقائق العقيدة فهي قليلة في هذه السورة..

          هناك مشهد كوني يرِدُ في مطلعها: (خلق السماوات والأرض بالحق يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهارَ على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيزُ الغفار)..

          ومشهد آخر في وسطها: (ألم ترَ أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض ثم يُخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب)..

          وهناك إشارات سريعة إلى خلق السماوات والأرض غير هذه المشهدين البارزين..

          كذلك تتضمن السورة لمسات من واقع حياة البشر، وفي أغوار نفوسهم، تتوزع في ثناياها.

          يرد في مطالعها عن نشأة البشرية: (خلقكم من نفسٍ واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعامِ ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعدٍ خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون).

          ويرد عن طبيعة النفس البشرية في الضراء والسراء: (وإذا مس الإنسانَ ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوله نعمةً منه نسيَ ما كان يدعو إليه من قبل..) الخ..(فإذا مس الإنسانَ ضرٌ دعانا ثم إذا خولناه نعمةً منا قال إنما أوتيتُه على علم بل هي فتنة.. )..

          ويرد في تصوير أنفس البشر في قبضة الله في كل حال: (اللهُ يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمتْ في منامها فيمسك التي قضى عليها الموتَ ويرسلُ الأخرى إلى أجل مسمّى إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون)..

          ولكن ظل الآخرة وجوّها يظل مسيطراً على السورة كلها كما أسلفنا. حتى تختم بمشهد خاشع يرسم ظل ذلك اليوم وَجوَّه: (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبّحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين).

          هذا الظل يتناسق مع جو السورة، ولون اللمسات التي تأخذ القلب البشري بها. فهي أقرب إلى جو الخشية والخوف والفزع والارتعاش. ومن ثم نجد الحالات التي ترسمها للقلب البشري هي حالات ارتعاشه وانتفاضه وخشيته. نجد هذا في صورة القانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه. وفي صورة الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم لهذا القرآن ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. كما نجده في التوجيه إلى التقوى والخوف من العذاب، والتخويف منه: (قل يا عبادِ الذين آمنوا اتقوا ربكم).. (قل إني أخاف إن عصيتُ ربي عذابَ يومٍ عظيم).. (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوّف اللهُ بهم عبادَه يا عبادِ فاتقون).. ثم نجده في مشاهد القيامة وما فيها من فزع ومن خشية، وما فيها كذلك من إنابة وخشوع.

          والسورة تعالج الموضوع الواحد الرئيسي فيها في جولات قصيرة متتابعة؛ تكاد كل جولة منها تختم بمشهد من مشاهد القيامة، أو ظل من ظلالها..


في ظلال القرآن – سورة الزمر ص 3033-3035

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق