الأحد، 28 يوليو 2013

من مفكرة فلسطين (1)

في الفكر اليهودي[1]
بقلم: إسماعيل الكيلاني

من الأمور التي لا يجادل عاقل فيها، أن معرفة العدو معرفة حقيقية تشمل إمكاناته المادية والمعنوية، وأهدافه ودوافعه، والوسائل التي يستخدمها، هي  أول الطريق لتحقيق النصر عليه، وما لم تتحقق هذه المعرفة فسيبقى العدو منتصراً، يفرض شروطه، ويسير نحو تحقيق غاياته وأهدافه، ونحن العرب والمسلمين أحق الناس بالتعرف على عدونا الذي احتل أرضنا، ودنّس مقدساتنا، وهتك الكثير من أعراضنا، وشرّدنا فوق كل أرض وتحت كل كوكب، إذا أردنا أن نسلك الطريق السوي الذي يحقق النصر، ويضمن استعادة العزة والكرامة.
            في عام 1934م طبع كتاب بمصر بعنوان "يقظة العالم اليهودي" من تأليف اليهودي "إيلي ليفي أبو عسل" يحدد فيه تاريخ الحركة الصهيونية بما يلي: "إذا أمعنا النظر جيداً نرى أن تاريخ الصهيونية يتناول أربعة أزمنة مختلفة: الأول: زمن التوراة. والثاني: الزمن السابق لهرتزل. والثالث: الزمن المعاصر لهرتزل، والذي يبتدئ من سنة 1904م إلى سنة 1918م. والرابع: الزمن التالي لتصريح بلفور". (ص16). ويؤكد أن موسى عليه السلام «كان أول من شيد صرح الصهيونية، ووطّد دعائمها، ونشر مبادئها السياسية، وقد أثبت الواقع أن الصهيونية ليست في عهدنا هذا سوى حلفة من سلسلة متصلة حلقاتها بعضها ببعض اتصالاً وثيقاًن ومتواثقة أجزاؤها تماسكاً محكماً شديداً» (ص22).
            وفي عام 1938م طبع في القاهرة ترجمة عربية لكتاب «في الفكر  اليهودي» الذي كان قد جمعه حاخام يهود في الإمبراطورية البريطانية، نقلها عن الإنكليزية رئيس قلم الترجمة بوزارة الزراعة المصرية في الثلاثينات من هذا القرن «الدكتور ألفريد يلوز»، ويعتبر هذا الكتاب «إنجيل الصهيونية» قدمها للقارئ «حاييم ناحوم» [2] الذي وصفه بأنه: «لؤلؤة جديدة يستقبلها بسرور مزدوج، وابتهاج مضاعف.. ستجد فيه الشبيبة اليهودية –فتيانها وفتياتها- شجاعة تساعدها في اقتحام مضمار الحياة، والخروج ظافرة منتصرة من المعركة..» ووصف الحركة الصهيونية قائلاً: «إنها اليوم أعظم بل أشهر حركة يعرفها التاريخ اليهودي». وقد ورد في أحد أناشيده ما يلي:
مثل قصف الرعدِ يشق لهيب السجن نصفين
سيدوّي في آذاننا صوت صادر من صهيون
وينادينا قائلاً: يجب أن تظل نفوسكم توّاقة إلى الأبد
لأرض آبائكم وأجدادكم
حتى ننقذ من يد الأعداء نهرنا المقدس
وعندما نعود إلى ضفاف الأردن سنحط رحالنا
فقسماً باسمك المقدس، لن نتنصل من القتال
إذا ما دقّت طبول الجهاد..
يأتي هذا التحريض ضدنا، ووصفنا بالأعداء، في الوقت الذي يعترف فيه الكتاب نفسه بأن بلاد المسلمين هي التي حاطت يهود بالرعاية والعطف، وعاملتهم بسماحة يوم أن كانت «جميع الأمم النصرانية تهاجمهم، وتشبعهم شتماً وامتهاناً، واحتقاراً، وسلباً ونهباً» وأنه عندما طردهم من إنكلترا «إدوارد الأول» ومن فرنسا «شارل السادس» «لم يجدوا ملجأ إلا الأندلس حيث حاطهم أمراء الإسلام بعطف خاص».

الأرض والشعب

            كتب بيغن في كتابه «الثورة: 325» يقول: «منذ أيام التوراة وأرض إسرائيل تعتبر أرض الأمم لأبناء إسرائيل، وقد سميت هذه الأرض فلسطين. وكانت تشمل دوماً ضفتي نهر الأرض ولبنان الجنوبي، وجنوب غربي سورية، إن تقسيم الوطن عملية غير مشروعة، ولن يحظى هذا العمل باعتراف قانوني، وإن تواقيع الأفراد والمؤسسات على اتفاقية التقسيم باطلة من أساسها.. وسوف تعود أرض إسرائيل بتمامها وإلى الأبد..»
            وفي خطاب ألقاه بن غوريون –وكان وزيراً للدفاع- بمناسبة إعلان قيام الدولة اليهودية على القسم الذي تمت سيطرة يهود ليه من أرض فلسطين عام 1948م، قال: «أما السيف الذي أعدناه إلى غمده، فإنه لم يعد إلا مؤقتاً. إننا سنستله حين تتهدد حريتنا في وطننا، وحينما تتهدد رؤى أنبياء التوراة، فالشعب اليهودي بأسره سيعود إلى الاستيطان في أرض الآباء والأجداد الممتدة من  النيل إلى الفرات» (حياة بن غوريون: ص327).
            وفي عام 1950م عندما صدر «قانون العودة» علّق عليه بن غوريون بقوله: «ليست دولة إسرائيل دولة يهودية فقط لأن اليهود يشكلون أغلب سكانها، إنها دولة لليهود أينما كانوا، ولكل يهودي يرغب في ذلك..» وينص هذا القانون على أن لكل يهودي أن يهاجر إلى إسرائيل، ويعتبر يهودياً كل شهص أمه يهودية أو اعتنقت الدين اليهودي، ولا يكون له دين آخر.. (الصفة اليهودية لدولة إسرائيل: 155-156). وكان بن غوريون وحرزب الماباي –وهو من الأحزاب العمالية- وراء قرار تدريس الدين كمادة إجبارية في البرامج الدراسية.. إلى جانب فرض اتخاذ اسم عبري لكل يهودي من يهود الشتات قادم إلى فلسطين، وفي ذلك يقول بن غوريون: «إن حياة اليهود في دولتهم الخاصة يجب أن تختلف كلياً وبالضرورة عن حياة إخوانهم في الأقطار الأخرى، وذلك في ميادين الثقافة والاقتصاد والوعي الذاتي، وفي نظرتهم نحو العالم ونحو أنفسهم، وفي علاقاتهم بالأمم الأخرى، وفي طابعهم الإنساني وصفاتهم، وفي طريقة معيشتهم.. تواجهنا اليوم صعوبات إذابة المهاجرين في  الدولة، وعندما تصلنا دفعة جديدة من المنفيين، سواء أكانوا من أقطار إسلامية أم سوفييتية، فإن الصعوبات ستزداد وتشتد، ومع ذلك فإن الدولة ستجد الطرق للتغلب على مشاكل تمزق المجتمع وتنافر الثقافات، مع  إدراكها أن ذلك ليس سهلاً.. في داخل الدولة ستزول الفوارق بين أنواع اليهود المختلفين بحكم مرور الزمن، وستذوب المجتمعات والقبائل في كيان ثقافي وطني واحد..». ويتابع قائلاً: «وأولى هذه المراحل تبدأ في ساعة وصول المهاجرين إلى فلسطين، إذ يرسَل إلى معسكرات خاصة بالمهاجرين الجدد، وتحدد له ضمن زمر خاصة صفوف يعطى فيها مبادئ اللغة العبرية وأصولها وما يحتاجه من مفردات تعينه على تدبير حياته..» حتى الجيش في دولة العدو له مهمات أخرى غير المهمات الحربية، ففي صفوفه «يلقّن الشباب اليهودي مواد خاصة تتضمن تقوية اللغة العبرية، ومعرفة جغرافية البلاد، ودراسة تاريخ اليهود، إضافة إلى مبادئ في الثقافة العامة والنظافة وحب الوطن..» (إسرائيل، الكتاب السنوي: 1954م).
الدولة..
            يعرّف بن غوريون (الدولة اليهودية) بعد أن أعلن استقلالها، فيقول: «إن دولة إسرائيل هي ذلك المكان الذي ولد فيه الشعب اليهودي، وإن أرض إسرائيل هي المهد الذي فيه تكونت الخصائص الروحية والدينية والقومية للشعب اليهودي.. في تلك الأرض كتبت التوراة التي قدمها الإله هدية إلى الإنسانية؛ وفي تلك الأرض تكونت الحضارة اليهودية ذات الطابع القومي العالمي في آن واحد.. إن اليهود لا يعودون إلى أرضهم فاتحين، وإنما يعودون إلى الأرض الموعودة من  أجل صالح الإنسانية! نحن اليهود –وقد أعيدت إلينا حقوقنا- سوف نظل أوفياء إلى وظيفتنا الإنسانية التي كانت وسوف تظل وظيفة شعب التوراة..» (إطار الحركة السياسية في المجتمع الإسرائيلي: 157).
            وفي نكبة حزيران 1967 أتم يهود احتلال المدينة المقدسة «القدس» باستيلائهم على القدس الشرقية، ولم يدخلها وزير دفاعهم آنذاك «موشي دايان» إلا في أعقاب دخول الحاخام الأكبر للجيش الإسرائيلي «شلومو غورين» حيث أدوا صلاة الشكر عند حائط البراق الشريف «حائط المبكى» وكانت الهتافات المسجلة وقتها: «يالثارات خيبر..» تشق عنان السماء.. وهنا قال دايان: «اليوم فتحت الطريق إلى بابل[3] ويثرب»، وفي آب/أغسطس من العام نفسه قال: «إذا كنا نملك التوراة، وإذا كنا نعتبر أنفسنا شعب التوراة فيجب أن تكون لنا أرض التوراة: بلاد القضاة، أرض أورشليم –القدس- وحبرون –الخليل- وأريحا وأماكن أخرى.. » (الجيروزاليم بوست: 10/8/1967).
ويصف إسحاق رابين –رئيس الأركان يومها- دخولَه بيت المقدس عام 1967 فيقول: «لقد كان احتلال القدس انتصاراً كبيراً لنا.. في حرب  الاستقلال –عام 1948- اضطررنا إلى ترك القدس الشرقية بأيدي العدو؛ ومنذ اندلاع حرب حزيران/يونيو كان صبرنا قصيراً، يجب ألا تضيع الفرصة التاريخية، وكلما كنا نقترب من حائط المبكى ازداد الانفعال، حائط المبكى الذي يميز إسرائيل.. لقد كنت أحلم يوماً بأن أكون شريكاً، ليس فقط في تحقيق قيام إسرائيل، وإنما في إعادة حائط المبكى إلى السيطرة اليهودية.. والآن عندما تحقق هذا الحلم تعجبت، كيف أصبح هذا ملك يدي؟ وشعرت بأنني لن  أصل إلى مثل هذا السمو طيلة حياتي.. وصلنا إلى حائط المبكى.. توقفت أنفاسي قليلاً، لم أشهد في حياتي مثل هذا الشعور.. وأنا أشك فيما إذا كنت سأشعر بهذا الشعور فيما بعد.. لقد شعرت بأن الوقت هو وقت انتصار نادر.. إن حقبات حاسمة في حياتي ترتبط بالقدس، فقد ولدت فيها، وحاربت فيها عام 1948م، وحلمتُ فيها بإقامة دولة يهودية..» (سجل خدمة، ص 5 وما بعدها).
            وقد علق صحفي فرنسي –جان نويل جورجان- على استيلاء اليهود على حائط المبكى بقوله: «دخل زلمان شازار رئيس الدولة المدينة المفتوحة، ووقف أمام حائط المبكى، ولأول مرة منذ عشرين قرناً يقف رئيس دولة عبرية مستقلة أمام معبد سليمان الكبير، وهذه هي عودة شعب داود إلى الأماكن العتيقة.. بل إن الإسرائيليين الملحدين ذاتهم تأثروا أيضاً بهذه الرموز الدينية، وهم لن ينتزعوا من الفدس دون أن تدمى قلوبهم..» ماذا يعني هذا؟ ألا يعني أن الدين يشترك في تكوين الدافع الروحي لوجود المجتمع، وأن هذه قضية منفصلة عن التدين –في غير الإسلام طبعاً- حيث ينحصر التدين تقريباً في ممارسة طقوس معينة، وفي أماكن خاصة، وحيث يمكن أن تنتظم الحياة المدنية بعيداً عن هذه الطقوس؟ ومع ذلك تبقى حقيقة العصبية الدينية في هذه المجتمعات.. (أخطر من النكسة: 79).
            وبعد حرب حزيران/يونيو 1967م ذهبت غولدا مائير رئيسة وزراء العدو إلى الولايات المتحدة لجمع تبرعات لصالح الدولة اليهودية، وكان مما قالته في الحفل الذي أقيم لذلك: «إسرائيل هي مركز وقاعدة كل شيء يهودي على وجه الأرض».

الوعد

            في الثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول 1967م كتب مراسل «الغارديان» البريطانية يقول: «إن الأمر أ صبحت له قداسته الدينية. ففي عطلة الأسبوع أعلن الحاخام الأكبر أن أورشليم –القدس- وأراضي إسرائيل هي أماكن مقدسة بالنسبة إلينا، لقد وعدنا الله بالأرض، وكل ما تنبأ لنا به الأنبياء يحدث لنا.. وعلى ذلك فإنه محرّم على أي يهودي أن يفكر في إعادة أي جزء كان من أرض أسلافنا».
            وفي تصريح أدلت له غولدا مائير لجريدة «لوموند» الفرنسية بتاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول 1971م، قالت: «وُجِد هذا البلد تنفيذاً لوعد الرب ذاته، ولهذا لا يصح أن نسأله إيضاحاً عن شرعية ذلك الوجود..».
            أما بيغن رئيس وزراء دولة العدو السابق فقد قال في «أوسلو» ونشرت ذلك جريدة «دافار» الإسرائيلية بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 1978م: «لقد وُعِدنا هذه الأرض ولنا الحق فيها». جاء في سفر التكوين، الإصحاح الخامس عشر، الآية: 18 «في هذا اليوم قطع الربّ مع إبرام –إبراهيم- ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى  النهر الكبير الفرات».
            وعندما طرح ريغان الرئيس الأمريكي مبادرته للسلام في الشرق الأوسط!! بعث إليه بيغن برسالة يعقب فيها قوله: «سيدي الرئيس، إن ما يطلق عليه من قبل بعضهم: الضفة الغربية،  هو يهودا والسامرة، وحقائق التاريخ البسيطة هذه لن تتغير أبداً. هناك من يحاول الالتفاف على التاريخ، ويمكن لهم الاستمرار بهذا الالتفاف كما يرغبون، ولكني سأتمسّك بالحقيقة التي تنصّ على أنه قبل ألفي عاماً كانت هناك مملكة يهودية في يهودا والسامرة.. هنالك سجد ملوكنا للرب، وهنالك تنبأ أنبياؤنا بالسلام الأبدي، وهنالك أنشؤوا حضارات غنية حملناها معنا في قلوبنا وأفكارنا، وفي تجوالنا لأكثر من ألف وثمانمائة سنة، وعُدْنا بها إلى وطننا.. من أجل صهيون لن  أهدأ، ومن أجل القدس لن أسكت..» القدس التي يسمّيها أورشليم.
            وفي أعقاب الاجتياح الإسرائيلي لجنوبي لبنان عام 1982م واحتلالهم لقسم كبير من الأرض اللبنانية، وحصارهم للعاصمة بيروت، نشرت جريدة «هاآرتس» الإسرائيلية بتاريخ 5 يوليو/تموز 1982م على لسان حاخام في الجيش برتبة نقيب قوله: «علينا ألا ننسى أجزاء التوراة التي تبرر  الحرب، فنحن نؤدي واجبنا الديني بوجودنا هنا، فالنصّ المكتوب يفرض علينا واجباً دينياً هو: أن نغزوا أرض العدو».
            ألا يكفي هذا لإقناع بعض بني جلدتنا أن يهود إنما ينطلقون من رؤية دينية، توراتية، تلمودية، وعنها يصدرون؟ إن أي تحليل للتعاليم اليهودية نفسها من خلال التوراة المتداولة التي تعلن منذ البداية متى يرتفع اليهودي إلى مرتبة الكمال، بقولها: «وهكذا سوف يكون عندما تصل إلى الأرض التي أعطاها الإله لك كميراث، وتضع يدك عليها..» أو من خلال التلمود الذي يصرّح بأن «واجب كل يهودي هو أن يعيش في أرض إسرائيل، وأن هذا الواجب يعلو أي التزام آخر..» بل إن الديانة اليهودية تفرض على كل يهودي فرضاً مقدساً هو أن يساعد أولئك الذي استطاعوا أن يظلوا في أرض الميعاد، أو استطاعوا أن يعودوا إلى أرض الآباء.. (إسرائيل الكبرى: 80) حتى في التبرعات التي لا يكلّ يهود ولا يملّوا في جمعها وإرسالها من مختلف بلدان الدنيا إلى دولتهم في فلسطين إنما ينطلقون من وصية توراتية بأن يساعد اليهودي أخاه اليهودي «والذي تعطيه لي سأردّه عشر مرات»؛ من هنا وجدنا أن ثمانمائة عائلة يهودية تعيش في مدينة بورت إليزابيث بجنوبي أفريقيا يتبرعون بعشرة ملايين مارك ألماني عندما وقف بينهم لويس ماكس يناديهم ويحثهم على التبرع بقوله: «أعطوا وأعطوا حتى يوجعكم العطاء.. حتى يؤلمكم العطاء..» وفي باريس استطاع روتشيلد أن يجمع من النصف مليون يهودي فرنسي أكثر من ثمانية وأربعين مليون مارك ألماني لتحوّل إلى أرض العدو.. وفي نيويورك بلغت تبرعات الستة ملايين يهودي أمريكي لصالح العدو خلال العام 1984م خمسمائة مليون دولار أمريكي دفعوها استجابة لطلب إدوارد جنسبارغ الذي كان يقول لهم: «إخواننا في إسرائيل يدفعون بأرواحهم ودمائهم وممتلكاتهم.. يدفعون دماءهم لإسرائيل.. أقل شيء نستطيع فعله: التبرع بسخاء.. وبسخاء لا حدود له» (القبس: 6/5/1985م).
            إن أي تحليل لهذه التعاليم اليهودية لابد وأن يقود إلى قوى فكرية ثلاث تكوّن الإطار العام لهذه التعاليم: صهيون-إسرائيل-التوراة.. أي: الأرض والشعب والدعوة. هذه العناصر الثلاثة تتداخل فيما بينها لتكوّن مثلثاً لا معنى لأي جزء منه مستقل عن الآخرَيْن «لا معنى لإسرائيل من غير القدس، ولا معنى للقدس من غير الهيكل..» فهي تفرض علاقة لا تنفصل بين الأرض والتعاليم، بين الوطن اليهودي والشعب  اليهودي، بين هذا الشعب والتعاليم الواردة في توراته وتلموده.. فكل يهودي خارج إسرائيل لم يحقق مثاليته، وكل تعاليم لا تنبع من  التوراة هراء وسفسطة، وكل يهودي لا يرى انتهاءه إلى أرض الأجداد تعبيراً  عن قدسية تعاليمه المنزلة مخالف لليهودية، منافٍ لدينه.. (إطار الحركة السياسية في المجتمع الإسرائيلي: 134).
            إنهم يجهرون دون مواربة أو خوف، بل بفخر واعتزاز بأن «شعب إسرائيل لم يحافظ على السبت فحسب، بل  إن السبت هو الذي حافظ على شعب إسرائيل» وإن فكرة أرض الميعاد، والمسيح الموعود، وشعب الله المختار هي التي حفظت عليهم ذاتيتهم ومنعتهم أن يذوبوا خلال فترة الشتات الطويل في الشعوب التي عاشوا بينها. يقول بن غوريون: «.. لقد كان نصيب شعبنا دائماً ان يقف كأقلية أمام الأكثرية، ولذلك ذكر أنبياؤنا منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة: أنكم أقل الشعوب جميعاً، ولذلك يجب على شعب إسرائيل أن يكون شعب قدرات وتفوق من الناحية الروحية، بحيث يستطيع أن يقف أمام شعب أكبر منه، وبدون التفوق الروحي لم يكن شعبنا يستطيع أن يبقى ألفي سنة.. وما بقيت من بقية بعد الشتات بين شعوب تكرهه، لأنه يختلف عنها وما استطاع إحياء وطنه بعد ألف وثمانمائة وثلاث عشرة سنة من هزيمته من ظروف تختلف عن ظروف إحياء واستقلال أية دولة في القرنين التاسع عشر والعشرين..» (أخطر من النكسة: 102).
            من هنا جاء إصرارهم على أن تكون هذه الأرض، أرض الميعاد والتوراة، خالصة لهم من دون الناس جميعاً. كتب يوسف فايتز مدير الصندوق اليهودي المكلف بالاستيلاء على أرض فلسطين في يومياته عام 1940م يقول: «يجب أن يكون واضحاً لنا أنه ليس هناك مكان لشعبين في هذا البلد، وإذا ترك العرب البلاد فإنها تكفينا لنعيش فيها.. وليست هناك وسيلة أخرى، فلا بد ان إخراجهم، ولا يصح أن نُبقي قرية واحدة لهم، أو قبيلة واحدة منهم: يجب أن نوضح لروزفلت –رئيس الولايات المتحدة يومها- ولكل رؤساء الدول الصديقة أن أرض إسرائيل ليست صغيرة إذا خرج منها العرب كلهم منها، وإذا ما وسّعت الحدود قليلاً نحو  الشمال على طول الليطاني، ونحو  الشرق على طول مرتفعات  الجولان..» ولذلك أطلقوا على الحرب التي درات رحاها فوق الأرض  المقدسة عام 1948م اسم حرب الاستقلال أو التحرير انطلاقاً من أن «الله قد وهب شعبه المختار تلك الأرض..» وأن أتباع موسى وأبناء التوراة لا يسعهم إلا أن يستجيبوا لتلك الدعوة بالعودة إلى هذه الأرض «أرتز إسرائيل» التي سُلِبَت منهم بطريقة غير شرعية! ومن حقهم أن يعودوا إلى وطنهم الجديد! فهل نعي هذه الحقيقة؟
مجلة الأمة، العدد 59، ذو القعدة 1405 هـ

[1] يستمد الفكر اليهودي جذوره من منبعين أساسيين هما التوراة والتلمود. والتوراة في أصلها «صحف موسى» عليه الصلاة والسلام، التي ضاعت في ثنايا التوراة المتداولة المحرفة التي تجعل الله عز وجل شخصاً يخطئ ويصيب، يحب ويكره، يغضب ويرضى، يأكل ويشرب وينام، متعطشاً للدماء ولا يرتوي منها.. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وتجعل من الأنبياء مجرمين سفاحين، وزناة قوادين، يشربون الخمر، ويعبدون الأصنام، يمكرون ويتآمرون –قاتلهم الله أنى يؤفكون- فهم الأبرار الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم.
والتلمود وضعه أحبار يهود في الأصل لذم المسيح عليه الصلاة والسلام وأمه العذراء البتول وتلامذته الحواريين بكلام فاحش بذيء، وهو كتاب تعليم ديانة اليهود وآدابهم [يقوم مقام السنة النبوية في ديننا]. وإلى جانبهما بض  المنابع الفرعية التي يمثلها بعض الكتب اليهوديةن منها: بروتوكولات حكماء صهيون، روما والقدس: لموسى هيس،  التحرير الذاتي: لبنسكر، الدولة اليهودية: لهيرتزل..
يقول بن غوريون: «تستمد الصهيونية وجودها وحيويتها من مصدرين: مصدر عميق عاطفي دائم مستقل عن الزمان والمكان، وهو قديم قدم الشعب اليهودي ذاته، هذا المصدر هو الوعد الإلهي والأمل بالعودة. أما المصدر الثاني: فقد كان مصدر تجديد وعمل، وهو ثمرة الفكر السياسي العملي الناشئ عن ظروف الزمان والمكان، والمنبعث من التطورات التي شهدتها شعوب أوروبة في القرن التاسع عشر، وما خلّفته هذه الأحداث الكبيرة من آثار عميقة في الحياة اليهودية» (نظام التعليم وفلسفته في إسرائيل: 32).
[2]  حاخام الطائفة اليهودية في الدولة العثمانية أيام الاتحاديين، عمل مع: استراوس ومورجانتو اليهوديين سفيري الولايات المتحدة في الآستانة، للقضاء على الجواز الأحمر الذي كان السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله قد وضعه بعد أن أدرك تآمر يهود ومكرهم للاستيلاء على فلسطين وجعلها دولة لهم، وذلك لمنعهم من الاستقرار فيها.. مثّل هذا الحاخام تركيا الكمالية في مؤتمر لاهاي وفي مؤتمر لوزان الذي تمت الموافقة فيه على إلغاء الخلافة، وقد ألغيت عام 1924م؛ وعلى استخدام الحرف العربي لكتابة اللغة التركية واستخدام الحروف اللاتينية؛ واستبدال القوانين الوضعية الأوروبية بالقانون العثماني المستمد من الشريعة الإسلامية «مجلة الأحكام العدلية»، اختاره بعد ذلك أتاتورك ليكون سفيراً له لدى الولايات المتحدة فرفض وفضّل الذهاب إلى مصر حيث أصبح حاخاماً أكبر لليهود فيها، وعضواً في اللجنة التي وضعت الدستور التي حُكِمت به مصر ثلاثين عاماً، توفي في القاهرة عام 1955م.
[3]  بتاريخ 21/5/1948م كتب بن غوريون يقول: نقطة الضعف في التآلف العربي هي لبنان، فالسيادة الإسلامية فيها شيء مصطنع، ويمكن بسهولة قلبها رأساً على عقب، وينبغي إقامة حكومة نصرانية في هذا البلد تكون حدودها الجنوبية هي نهر الليطاني، وسنوقع معاهدة تحالف مع هذه الدولة، وبعد ذلك نحطم الفرقة العربية الأردنية، ونكون قد ثأرنا لأسلافنا من مصر وآشور والكلدان.. (تاريخ حياة بن غوريون: 139).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق