الثلاثاء، 23 يوليو 2013

العربية في سوق اللغات (2)

جمال الحسيني أبو فرحة
أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة


بالإضافة إلى ما سبق ذكره فى مقالنا السابق؛ فإن المزية البينة فى قواعد اللغة العربية أنها تابعة لأغراض التعبير والدلالة. ويظهر ذلك بوضوح في ازدهار ظاهرة الإعراب في اللغة العربية، وهو ما لا نجد له آثرًا يذكر لا في الإنجليزية ولا في الفرنسية، أما اللغة العبرية ففيها قليل من حالات الإعراب، ولا تخفى أهمية وجود هذه الظاهرة، ولا يخفى أثرها في دقة التعبير والدلالة؛ يقول الزجاجي: "إن الأسماء لما كانت تعتورها المعاني، فتكون فاعلة، ومفعولة، ومضافة، ومضافا إليها، ولم يكن في صورها وأبنيتها أدلة على هذه المعاني، بل كانت مشتركة، جعلت حركات الإعراب فيها تنبئ عن هذه المعاني ... ليتسعوا في كلامهم ويقدموا الفاعل إن أرادوا ذلك أو المفعول عند الحاجة إلى تقديمه وتكون الحركات دالة على المعاني".
وتتفوق العربية كذلك فى وجازتها وسهولتها ودقتها على لغات كالإنجليزية والفرنسية؛ فيجوز أن يخلو مكان الفعل الظاهر من الجملة العربية وتفيد معناها المستقل مع تقديره أو تقدير ما ينوب عنه؛ فيجوز مثلا أن يقال: (رجل فى الدار)، ويفهم منها ما يفهم من قولهم باللغات الأوروبية: (رجل يوجد في الدار)، أو ما يفهم من قولنا بلغتنا العربية: (رجل موجود في الدار)؛ ولكن في الفرنسية والإنجليزية لا تتم الجملة على وضع من هذه الأوضاع بغير الفعل الظاهر، فكل كلام خلا من الفعل الظاهر عندهم فهو غير مفهوم.
واللغة العربية كذلك تدل على المبنى للمجهول بصيغة خاصة في أوزان الفعل  بينما الإنجليزية والفرنسية فتدلان على المبنى للمجهول بعبارة؛ ففي العربية نقول: (يُفْتَح الباب) بصيغة المجهول، ولكن العبارة الإنجليزية التي تدل على ذلك هي The door is opened وهى تقابل قولنا: (إن الباب يكون مفتوحا)، وهو تعبير يخلو من دقة الصيغة العربية؛ لأنه أقرب إلى الوصف منه إلى الإخبار عن حدث.
وتزيد اللغة العربية صيغة لا وجود لها فى الإنجليزية والفرنسية، وهى ما اقتصرت عليه اللغة العبرية، وهى صيغة الفعل المطاوع (انفعل) فيقول القائل: (انفتح الباب)، ويعبر بذلك عن معنى لا تدل عليه دلالته الدقيقة كل من صيغة المبنى للمعلوم، وصيغة المبنى للمجهول.
فإذا قلنا: (فتح محمد الباب)، فهذا لمن يهمه أن يعرف من الذي فتح الباب، وإذا قلنا: (فُتِحَ الباب)، فقد يكون الخبر موجها أيضا إلى سامع يهمه أن يعلم شيئا عن الفاعل، ولكن المتكلم يخبره بأنه لا يعرفه، أو يخبره بأنه يعرفه ولا يريد أن يذكره؛ تعمدا لإخفائه، أو لإهماله، ولكن هناك حالة غير هذه وتلك، وهى حالة إنسان ينتظر فتح الباب، ولا يعنيه من الذي فتحه كما لا يعنيه أن يقول له المتكلم إنه يجهله أو يعرفه ولا يريد أن يذكره؛ فى هذه الحالة يقول العربي: (انفتح الباب)، فيؤدى المعنى المطلوب بغير خلط بينه وبين الحالات الأخرى.
واللغة الدقيقة هي اللغة التي تلاحظ مقتضى الحال في كل عبارة من العبارات الثلاثة، ولا تستخدم عبارة واحدة لموضوعين ملتبسين، بل تستخدم كل عبارة لموضوعها الذي لا لبس فيه، وهذه هي صفة اللغة العربية في وفائها بالمعاني المقصودة على حسب إرادة المتكلم والسامع، أو على حسب ضرورة التفاهم بين الاثنين.
كما تبدو عظمة هذه اللغة ووجازتها مع دقتها من أن درجة الفاعلية في الاسم تثبت في اللغة العربية باستخدام صيغ من مادة الفعل نفسه بغير حاجة إلى مادة مستعارة من غيره.
ففي اللغة العربية صيغ للمبالغة تعطينا من مادة الفتح مثلا كلمة (فتّاح)، بمعنى كثير الفتح، ولا مقابل لهذه الصيغة وأمثالها من صيغ المبالغة في الإنجليزية والفرنسية، إلا باستخدام جملة أو عبارة مركبة من عدة كلمات.
أما الصفة المشبهة فهي آية الآيات في توضيح هذه الدقة للغة العربية؛ حيث تفرق اللغة العربية بين الصفات بفروق لفظية تحيط بأعمق ما بينها من فروق المعنى.
فهناك فرق بين كلمة (كريم)، وكلمة (معطى)، وكلمة (معطاء)؛ فمن أعطى مرة واحدة فهو معط أو فاعل لفعل من أفعال الكرم، وإن لم يكن كريما على الدوام، وكذلك المعطاء الذي يعطى مرات كثيرة، لا يلزم من ذلك أن يكون كريما أو أن يكون عطاؤه من عنده، فربما كان المعطاء في معنى من معانيه مرادفا للصراف على هذا الاعتبار؛ فالكرم صفة لا تحدث في كل عطاء أو كل منحة أو كل صنيع معدود من الصنائع الكريمة، ولكنه صفة ملازمة، ولو لم يحدث فعل الكرم غير مرة واحدة، أو مرات معدودة، فإن الذي يعمل عمل الكرماء (كريم) ولو لم تتجدد أعماله أو هباته؛ فالكرم يعبر عن الخلق الثابت الذي لا يتوقف على حدث في زمن محدد؛ ومن ثم جاءت صفة الكريم من فعل لازم، وجاءت صفة المعطاء من فعل متعد لمفعولين، واستغنى المتكلم عن صيغة اسم الفاعل من الفعل كرم مع وجود الصفة المشبهة؛ لأن صيغة (الكارم) مع سهولتها على اللسان لو وجدت لا تؤدى المقصود من الفعل (كرُم) الذي هو صفة دائمة وليس بعمل متكرر.
أما الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة، فموجودة في جميع لغات الحضارة، ولكنها في اللغة العربية توجد مميزة حيث يحتاج الأمر إلى التمييز، وبمقدار الحاجة إليه، وكثيرًا ما تأتى جزافا في غيرها من اللغات.
فضمير المتكلم لا يحتاج إلى تمييز بين المذكر والمؤنث؛ لأن إشارة المتكلم إلى نفسه كافية للتعريف بجنسه، ولكن يحتاج إلى التفرقة في العدد، فالفرد يتحدث إما بلسان نفسه، وإما بلسان جماعة، وهو ما نجده في اللغة العربية كما نجده في جميع اللغات؛ فنقول: (أنا كتبت)، للمفرد مذكرا ومؤنثا، ونقول: (نحن كتبنا)، للجمع مذكرا ومؤنثًا.
ولكن الضمير في حالة الخطاب والغياب يحتاج إلى التمييز في الجنس والعدد، فميزته اللغة العربية، كما ميزت الفعل مع الضمائر المختلفة في العدد وفى الجنس، كما ميزت بين الفعل في حالة التكلم وحالة الخطاب وحالة الغياب فنقول في حالة الخطاب للرجل: (أنتَ كتبتَ)، وللمرأة: (أنتِ كتبتِ)، وللرجال: (أنتم كتبتم )، وللنساء: (أنتن كتبتن)، وللمثنى بنوعيه: (أنتما كتبتما)، ونقول في حالة الغياب للرجل: (هو كتب)، وللمرأة: (هي كتبت)، وللرجال: (هم كتبوا)، وللنساء: (هن كتبن)، وللمثنى المذكر: (هما كتبا)، وللمثنى المؤنث: (هما كتبتا).
بينما الضمائر في لغات كالإنجليزية والفرنسية فلا تعرف المثنى، ولا تفرق الإنجليزية بين الضمير المذكر والضمير المؤنث إلا في حالة المفرد الغائب، ويتساوى ضمير المخاطب في الإنجليزية في حالة الإفراد والتثنية والجمع.
 كما يتساوى الفعل في الإنجليزية مع الضمائر المختلفة في الجنس والعدد، سواء في حالة التكلم أو الخطاب أو الغياب.
وفى العبرية كذلك لا نجد ضمائر مثناه، كما أن العبرية لا تفرق في صيغة الفعل بين الغائبات والغائبين؛ فأصبحت لهما صيغة واحدة تشبه العامية المصرية (فعلوا)، هذا مع الفعل الماضي؛ أما مع الفعل في المستقبل، فهناك التباس بين مستقبل الغائبات ومستقبل المخاطبات.
ومما يبين دقة العربية كذلك ما نجده في العبرية مثلا من جزافية لا نعهدها في العربية عندما أدخلت أداة التعريف على اسم الإشارة والمشار إليه، بينما أدخلت العربية أداة التعريف على المشار إليه فقط، ولم تدخله على اسم الإشارة باعتباره معرفة ولا تعريف للمعرف.
وتتجلى دقة اللغة العربية حين نلاحظ أنها تفرق بين جموع للقلة وجموع للكثرة؛ فتقول: (أَبْسط ، أَرْغِفَة ، أَفْراخ ، فِتْيَة) للقلة، وتقول: (بسط ، ورغفان ، وقفول ...الخ ) للكثرة؛ وهذا ما لا نجده لا فى الإنجليزية ولا فى الفرنسية ولا فى العبرية.
كما نجد في اللغة العربية (التصغير) وهو ما لا نجده في لغات كالإنجليزية والفرنسية.
وفي اللغة العربية بخلاف كثير من اللغات نجد كذلك أن التعبير عن اختلاف كيفيات الفعل ودرجاته متحقق من وفرة الأفعال التي تؤدى معنى كل كيفية ودرجة؛ فإذا تحدث المتحدث عن هبوب الريح مثلا ففي وسعه أن يقول: إنها نسمت، أو خفقت، أو سرت، أو هبت،  أوعصفت، أو قصفت، أو تهزَّمت، إلى أشباه هذا الترتيب في القوة والتأثير.
كما أن التضعيف والزيادة في اللغة العربية يؤديان معنى الفعل على درجات وأشكال شتى يستغني بها المتكلم عن الظروف بعكس كثير من اللغات الأخرى كالإنجليزية والفرنسية مثلا؛ ففي العربية من مادة الفتح مثلا يمكن أن نقول: فتح وفتّح بتشديد التاء، وافتح، واستفتح، وفاتح، وانفتح ..الخ.
واجتزئ بما ذكـرت في التدليل على ما حظيت به العربية من اكتمال لغوى يهيئها لحمل رسالة عالمية، وهو قليل من كثير لا يتسع المقام لعرضه.
وأضيف هنا أنه كما تحتاج اللغة العالمية لكل ما سبق، تحتاج كذلك لكل ما يجعلها رشيقة على اللسان، محببة إلى الآذان، ومن ثم يسهل على الأذهان حفظها واستذكارها.
أما الرشاقة فأكثر كلمات اللغة العربية ثلاثيا، ولا يتجاوز الاسم بالزيادة سبعة أحرف (وهو الخماسي المزيد بحرفين)، كما أن الفعل لا يتجاوز بالزيادة ستة أحرف (وهو الرباعي المزيد بحرفين )؛ أما الإنجليزية والفرنسية فلا مقارنة لهما بالعربية في هذا المضمار، انظر مثلا كلمة (دين) فهي بالعربية مكونة من ثلاثة أحرف أما في الإنجليزية وكذلك الفرنسيةReligion  فهي مكونة من ثمانية أحرف،  وكلمة مثل (نبيّ) فهي فى العربية مكونة من أربعة أحرف؛ أما في الإنجليزيةProphet  فهي مكونة من سبعة أحرف، وفى الفرنسية Prophete  مكونة من ثمانية أحرف، بل إن كلمة (مشرك) وهى في العربية مكونة من أربعة أحرف نجدها مكونه من ستة عشر حرفا في الإنجليزية Associationnator وكذلك في الفرنسية Associationniste
وأما الموسيقية: فيعتمد الشعر الإنجليزي في موسيقاه على النبر، بينما يعتمد الشعر الفرنسي على عدد المقاطع في كل بيت؛ أما الشعر العربي فيعتمد على التفعيلات التي تكون بحور الشعر العربي التي ذكر الخليل بن أحمد الفراهيدى منها ستة عشر بحرا، لكل بحر منها عدة صور، بل وللصورة الواحدة عدة تنوعات موسيقية، هذا بالإضافة إلى ما لم يذكره الخليل من فنون الشعر:  كالموشح، والدوبيت، والزجل، والمواليا، والكان وكان، والقواما...الخ
أضف إلى ذلك أن أوزان العروض العربية على إحكامها وإتقانها سهلة الأداء قابلة للتوسع والتنويع إلى الغاية المطلوبة في كل موضع يتناوله الشعراء، ومن ثمة اختار شعراء اللغات الفارسية والعبرية والأوردية أن ينظموا بلغاتهم في أوزان العروض العربية، وفضلوها على أوزانهم القديمة ، لأنها أسهل منها وأجمل فى موقعها من الأسماع والنفوس.
كل هذا بعض مما هيأ العربية لحمل الرسالة الخاتمة، يبرهنه علم اللغة المقارن ويقتضيه العقل للغة الرسالة الخاتمة. فصدق حافظ إبراهيم فى قوله على لسان اللغة العربية:
وسـعت كتاب الله لفظًا وغايـة ** وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ** وتنسيق أسماء لمخترعات
أنـا البحر في أحشائه الدر كامن ** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق