الخميس، 25 يوليو 2013

التكيـُّف الجغرافي والسكاني والتاريخي للأندلس¨

 ميغـِل كـروث اِرْنـانـْدِث
ترجمة: فخري الوصيف

1- الوضع الجغرافي للأندلس
غالبا ما يطلق الجغرافيون والمؤرخون العرب "الأندلس" على شبه جزيرة إيبريا ، وأصبح هذا المفهوم تقريبا عامًّا لدى الإنسان المثقف ؛ ولنتذكر تعبير ابن رشد عندما تحدث عن الوحدة الجغرافية للأندلس ، الإسلامية أو النصرانية على حد سواء . لكن هذا المفهوم ، كما هو معروف ، عبارة عن كلمة أو فكرة ذات أصل شرقي محتمل . بالفعل لم يكن المسلمون الأوائل لديهم فكرة واضحة عن حدود شبه جزيرة إيبريا ؛ فبريق وسرعة الفتح جعلتهم يتخطون عقبة الـﭘـُرْت (الـﭘرنيو Pirineo) ويتوغلون بعمق فيما هو معروف حاليا بفرنسا . وكان فشل فتح غالة القديمة لأسباب مجتمعة : جغرافية (المناخ المطير) ، وتاريخية (قوة التلاحم الاجتماعي لأمناء القصر الذين أنشأوا الأسرة الكارولونجية) ، وعسكريـة (مقاومة الكونت أودو Eudes من تولوز) ؛ لذلك ، ومنذ عام 122 هـ (= 740 م) تخلـّى الفاتحون عن الحافة الكانتبرية ، وبعد ذلك دعم عبد الرحمن بن معاوية هذا الوضع . وبعد فقدان برشلونة ومعها كل قطالونيا القديمة Catalunya vella  ، بقيت أعالي البرت عصية على السيادة الإسلامية في الأماكن القليلة التي وصلت إليها ، وبشكل صوري أكثر منه فعلي . لذلك استقر الإسلام الأندلسي بوجه أساسي في أودية أنهار إبْـرُه Ebro ، وطوريا Turia ، وشـُقـْر Júcar ، وشقورة Segura ، والوادي الكبير Guadalquivir ، ووادي آنهْ Guadiana ، والتاجه Tajo ، والسواحل المتوسطية والأطلسية الجنوبية ، وتشكـَّل عموده الفقري داخليا من منظومة السلاسل الجبلية : الإيبرية ، والوسطى ، والهضبة الجنوبية .
بهذا التحديد ، يمكن القول إن الوضع النمطي لشبه الجزيرة الإيبرية كملتقى لتيارات حافـزة ، على ما أشار الأستاذ أ.  كابو A. Cabo ، كان يوجد بالكامل في نطاق الإسلام الأندلسي ، بل يصل إلى حد المبالغة في قوله بهذا الشأن . وبـِنـْية شبه جزيرة إيبريا جدّ بديهية لدرجة أن يسمّي الفاتحون منطقة رأس الجسر "الجزيرة" ، وهو المصطلح الذي ظلّ باقياً في اسم موضع Algeciras  . وموقع شبه الجزيرة يمثل باعثا لعزلة قوية ، معـززة في هذه الحالـة بالشكل المحكم ، تقريبا خماسيا ، للأراضي الإيبرية . من جهة أخرى ، الحاجز الشاسع ، حاجز الـﭘرتات (435 كم) يبدو عسير الجواز ؛ إذ تشكل جبال الـﭘرتات عقبة جبلية مهمة متكونة من عدة صفوف جبلية متوازية ، نسبيا حديثة التكوين جيولوجيا ، بارتفاعات شاهقة ومنحدرة خالية من تجاويف مستعرضة ، الفجاج صعبة وعسكريا خطرة ، والمناطق الساحلية المنخفضة ،  شرق وغرب الحاجز ، قليلة وضيقة . من جهة أخرى ، شبه جزيرة إيبريا تكوِّن حدّ العالـم الغربي ؛ الذي فيه كان يلتقي آخر الأرض المعمورة من العالم القديم . وبتنازل الإسلام الأندلسي تقريبا منذ مولده عن الجرف الكانتبري ، تزعزعت سيادته في أعالي الـﭘرتات ، وفقد مبكرا الأراضين الكتلانية الواقعة إلى الشمال من خط يوبريجات-كادورنير Llobregat-Cadorner ، وتحول حاجز الـﭘرتات إلى ستار حديدي شمالي ، قصي وصارم .
تكمن خلفية بـُساط موقع شبه الجزيرة في وضعه كمِنصّة لتحفيز الاتصال ، وإلى ذلك ينبغي الإشارة إلى أربعة محاور : الاتصال الأوروﭘـي الإيبيري ، والاتصال البيني المتوسطي ، والجسر الشمالي الأفريقي ، والدائرة الأطلنطية المتوسطية . فـَقـَدَ الإسلام الأندلسي سريعا المحور الأول ، وانتهى الحال بـِضعف الرابع ، فأصبح الاثنان الآخران حاسمين . الجسر الشمالي الأفريقي ، وهو جوهري على طول تاريخ شبه جزيرة إيبريا ، ويشكل أحد تفسيرات وجود الإسلام في الأندلس : بين رأس طريف والساحل الشمالي الإفريقي يوجد 15 كم كـفاصل ، الحياة النباتية والحيوانية متشابهة ، والمناخ مشترك . أما الاتصال البيني المتوسطي ، فالدور الفريد للسواحل الإيبرية مشهود منذ أقدم العصور ، ويعزز هذا الدور الموقع الإستراتيجي للجزائر الشرقية (جزر البليار Baleares  وPitiusas) ومضيق البحر في ساحل أندلوثيا . بالنسبة إلى الدائرة الأطلنطية المتوسطية ، التي كانت محلا لأسفار خرافية قديمة أحدثها الافتراض الهرقلى بأن ما ثمة مكان آخر هنالك (Non plus ultra ) ، فقد شجعت الهجرات ، وسهلت التجارة البحرية ، وفتحت أبواب أوروﭘا الشمالية الأطلسية . من هنا ، من المرجح ، ولد  الأساس الفكري لاسم الأندلس الذي درسه الأستاذ بالبيه Vallvé . فلذلك كان الإسلام لديه فرصة تاريخية كبرى ، ولكنها مخفقة جزئيا بسبب العداوة بين الأمويين والعباسيين والفاطميين ، وبسبب الفقدان المبكر للحافة الكنتبرية والأراضين الواقعة شمال نهر دويره Duero . إذ يكفي ذكر الاستثمار المتوسطي من جانب مملكة أراجون والأطلسي من جهة الـﭘرتغال وقشتالة .
2- الثوابت المناخية والمائية
كذلك البنية الجغرافية لشبه جزيرة إيبريا معقدة ومتناقضة فيما يتصل بالمناخ والمياه . وهو وضع غالبا ما تشرحه كتب الدليل الجغرافية بواسطة مثال معروف : وهو شكل خط السكة الحديدية الذي يربط بين ﭘاريس ومدريد والجزيرة ؛ فالجزء الفرنسي منه خط مستقيم تقريبا ، دون تقلبات جبلية مهمة ، ومناخ مستقر ومطير ؛ أما الجزءان الاسـﭘانيان فيشكلان خطا كثير الوعورة ، بارتفاعات وانخفاضات حادّة (السلاسل الجبلية بكانتبريا ، والوسطى ، وسييرا مورينا ، وسييرا نيـﭬادا) ، وخوانق جبلية (أحدها عسير جدا مثل ديسـﭘينياﭘيروس Despeñaperros ) ، وتقلبات مناخية متعددة (مطير في بسقونية Vasconia ، قاري ومتطرف في كلتا الهضبتين ، وحارّ في وادي نهر الوادي الكبير) . يسيطر على شبه جزيرة إيبريا 211000 كم مربع من الهضاب ، التي تصِل الشمال الغربي بجنوب وادييْ نهري ابره والوادي الكبير . أكثر من 50% من مساحة شبه الجزيرة (276208 كم2) يتراوح ارتفاعه بين 401 و1000 متر .
بتخلـّي الإسلام الأندلسي عن الحافة الكنتبرية وتقريبا عن معظم الهضبة الشمالية ، أصبح الباعث للانزواء وراء هذا الحاجز الجغرافي أكثر شدة . كما أن المراكز الحضرية في منخفضات نهريْ ابره والوادي الكبير وسهول شرق الأندلس الخصبة تحولت إلى وسائل لنقل السلطة المركزية المتفتتة إلى الأطراف . ودون الاعتماد على الأسباب التاريخية ، يمكن لجغرافي جيد أن يفهم ظهور دول الطوائف بـالوقوف أمام خريطة لسهول ألمرية ، وبطليوس ، وقرطبة ، وغرناطة ، ومرسية ، واشبيلية ، وطليطلة ، وبلنسية ، وسرقسطة ، بل حتى بالنسبة لمناطق محصورة ، مثل حالة دانية . وجدير بالذكر أن سلسلة قيعان منخفض الوادي الكبير التي تبدأ بارتفاع 1000 متر عند ويسكر Huéscar تستمـر إلى بسطـة Baza ، ووادي آش Guadix ، وغرناطة ، و لوشة ، وأرشذونة ، وأنتيقيرة ، حتى جسر شنيل Puente Genil ، حيث تقريبا تبلغ مستوى سطح البحر . ويقوم درع السلسلة الجبلية الإيبرية الصلد الممتد من الشمال إلى الجنوب كمفصل لسلسلة الجبال التي تمتد من الشرق إلى الغرب ، فنتج عن هذا مجموعة من الممرات الطبيعية التي سهلت طرق الترحال البدائية فيما قبل الفترة الرومانية ، كما أن شبكة الطرق الرومانية ، التي استخدمها مسلمو الأندلس ، ربطت فيما بينها وبين الرصيف Arrecife)) المركزي . كل ذلك تسبـّب في ظهور كثير من أقاليم مناخية صغيرة ومجاري مياه غير منتظمة الشكل وعنيفة ، ذات انحدارات جامحة في مساراتها التي تتراوح بين متوسطة وقصيرة .
نظريا مناخ شبه الجزيرة معتدل دفيء ، لكن أي اسباني يحب السفر يسخر من هذا التقويم الإحصائي الصِّرْف . فكاتب هذه السطور قد اختبر شخصيا اختلاف في درجة الحرارة حتى 70 درجة : من –23˚ في البسيط Albacete  إلى +47˚ في أندلوثيـّا . في محافظة سلمنقة Salamanca  في منتصف مارس / آذار عادة تهبط درجة الحرارة في عاصمة المحافظة إلى ما تحت الصفر ، بينما في المنحدرات الواقعة على جانبي نهر دويره تزهر أشجار اللوز . هذه الأحوال ممكنة بفعل خمسة عوامل رئيسية : شكل البنية المضطرب ، والتوازن الإجمالي ، وفاعلية المنطقة الصحراوية المجاورة ، وتأثير المناطق البحرية التي تحتضن شبه الجزيرة ، ومرتفع الآزور الجوي المعروف . ولكن الإسلام الأندلسي تخلـّى عن أكثر من تسعين بالمائة من إيبريا المطيرة ؛ من هنا فإن معدل ساعات إشراق الشمس في الأندلس بمعناه التاريخي يكون مرتفعا جدا (أكثر من 2000 ساعة سنويا بالنسبة لإجمالي مساحة الأندلس ، وأكثر من 2500 ساعة بالنسبة لثلاثة أرباع هذه المساحة) .
هذا الوضع يُقلـِّل من الاعتماد على نظام المطر المعقد . والسمة الأقل بروزا فيه هو المتوسط السنوي المنخفض لكمية الأمطار (650 مم سنويا لأقاليم الأندلس طبقا لحدوده في القرن العاشر) ، والأكثر أهمية هو تفاوت تساقط الأمطار . منطقة مرسية تتناوبها دورات قحط خطيرة مع فيضانات مهلكة ؛ الفيضان المروع لنهر توريا في بلنسية قد أجبر الحكومة على تغيير مجرى النهر ؛ وابل المطر في ملقا في يوم عيد القديس سان ميغيل سنة 1957 أعطى 249 مم في عدة ساعات ؛ ألمرية المشهورة بجفافها قد استقبلت العديد من رخات المطر بلغت تقريبا 100 مم ( 98 مم في عام 1951) ، العاصفة المطيرة المشهورة على غرناطة بدأت في 14 أكتوبر سنة 1962 وانتهت في17 فبراير 1963 ، مسببة أضرارا جسيمة رغم مشاريع الهندسة المائية الموجودة اليوم ، ولم تكن معروفة في العصور الوسطى ؛ الأمطار الغزيرة في خريف 1982 حطمت سد طوسTous  في 20 أكتوبر من نفس العام ؛ وكذلك دُمِّرَت الأجزاء السفلى من فوينخيرولا Fuengirola  في أكتوبر سنة  1988 ؛ الفيضانات في مقاطعة أندلوثيا سنة 1990 قد أحدثت أضرارا عديدة شاملة ضحايا بشرية على وجه الخصوص في ملقا ؛ وفي أيام قليلة تجاوزت كمية المطر المنهمر المتوسطَ السنوي في إيبريا المطيرة ؛ المُسِنـُّون من أهل ألمرية لا يتذكـّرون عاما أكثر مطرا من عام 1990 . وبعد فترة الجفاف من سنة 1991 إلى 1995 ، عادت الأمطار بغزارة من ديسمبر 1995 إلى مارس 1996 محدثة فيضانات .
تأثير نظام المطر هذا قاطع بسبب نشاطه في شبكة المياه النهرية ، ومستويات المياه الارتوازية والطبقة التحتية لمجاري الأنهار ، ومخزونات المياه الجوفية . سبعة من الأنهار العشرة الكبرى في شبه الجزيرة كانت تقع في الأندلس الإسلامي ، بالإضافة إلى خمسة من الروافد النهرية التسعة الكبرى . غرابة وشذوذ التقلبات الفصلية تكون فائقة الأهمية في التأثير على الأنهار الأندلسية الأكثر تمييزا : وادي أنه ، والوادي الكبير، وشقر ، وشقورة ، وتوريا . مع وجوب التنبيه بأن أي تشابه مع الوضع الحالي يعد خطأ كبيرا ؛ لأن حاليا كل الأنهار المذكورة وروافدها الرئيسية مضبوطة بسدود كبيرة وعديدة ، ومع ذلك ، فعلى سبيل المثال تحدث فيضانات نهر شقورة نتيجة الأمطار الواقعة على منطقة البستانla huerta  ، لأن السدود الرئيسية التي تضبط النهر (فوينسانتا Fuensanta  ، وثيناخو Cenajo ، وتالابيه Talave ، وكامرياس Camarillas ) تقع إلى الداخل في محافظة البسيط المجاورة .
إنها لعديدة الشهادات النـَّصّيـّة في الحوليات الإسلامية على فترات الجدب والفيضان ، وضياع المحاصيل ، والغلاء والمجاعة . أذكر كعينة بعض هذه الإشارات : فترة الجدب المطروقة كثيرا الواقعة في 709 – 710 ، والتى يقال إنها ساعدت على وصول المسلمين إلى شبه جزيرة إيبريا ؛ وتلك الحادثة في سنة 123هـ (= 740-741) ، التي عجلت بالانتزاء البربري ؛ وتلك الكائنة في السنوات من 131 إلى 136هـ (= 748-754) ، التي دعّمت قيـام مملكـة القوط الجديدة في أشتورياش ؛ و161-162 (= 777-779) ؛ و182 (= 798-799) ؛ و199 (= 814-815) ؛ و207 (= 822-823) ؛ و222 (= 836-837) ؛ و235 (= 849-850) ، التي يُقـال إنها نالـت من أنهـار الوادي الكبير وشنيل والتاخو ؛ و260 هـ (= 873-874) ، والتي في سنتها حدثت مجاعة خطيرة ؛ و285هـ (= 898-899م) ؛ و288هـ (= 900-901م) .
وسنة 302هـ (= 915م) : "وفيها أمحل الناس وتوالى عليهم القحط ، وعمّ بلادهم ، فبرز إلى المصلى بالربض الفقيه المشاوَر محمد بن عمر بن لبابة ، واستسقى لهم خمس مرات في أيام مختلفة ، فلم يسقوا وغلت الأسعار وقل ظهور الحنطة في الأسواق . ثم أمر الناصر لدين الله أحمد بن محمد بن زياد بالبروز بالناس للاستسقاء ، فبرز بهم يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من شوّال منها ، وهو أوّل يوم من مايه الشمسي ، فنزل رذاذ صالح وندى مبلل تمسّك به بعض الزرع وذهب الأكثر باستيلاء اليبس عليه ، فصرَّحت السنة عن ذاتها واعتدى القحط شاملا للأندلس كلها وثغورها ، فغلت الأسعار في جميع جهاتها".
وسنة 303هـ (= 915-916) ، و"فيها كانت المجاعة بالأندلس التي شبِّهت بمجاعة سنة ستين ، فاشتدّ الغلاء وبلغت الحاجة والفاقة بالناس مبلغا لم يكن لهم عهد بمثلها ، وبلغ قفيز القمح بـِكيْل سوق قرطبة ثلاثة دنانير".
وسنة 314هـ (= 926-927) ، "وفيها أمْحَل الناس بقرطبة وما يليها ، فغلا سعرهم وضاقت معايشهم ، وبرز صاحب الصلاة أحمد بن بقيّ بن مخلد ، فاستسقى لهم في مُصلـّى الرَّبَض".
وسنة 317هـ (= 929-930) ، وفيها تكرّرت الشدّة باحتباس الغيث ، "والسماء في كل ذلك ممسكة لما قدّر اللّه تعالى" .
وسنة 324هـ (= 935-936) ، "وفيها أمحل العامُ بالأندلس المحل العامّ الذي لم يُعْهَد فيها بمثله ، ولا سُمِع كاتصاله ، إذ تمادت السنة على محلها ، وضنّت السماء بوبلها ، فلم تـنـضّ بقطـرة ، ولا بلـّت مدرة" .
وسنة 330هـ (=941-942) ، وفيها "توقـّف الغيث آخر شهر دجنبر الشمسي بقرطبة وأعمالها ، وقحط الجباب ، فبطل الاحتراث ، وجدب الزمان". ولذلك تواصلت صلوات الاستسقاء من يوم الجمعة الثاني من ربيع الأول الموافق السابع من يناير حتى يوم الثلاثاء الثاني عشر من جمادى الأولى الموافق اليوم الأول من فبراير . " فصدر الناس عن المصلى هذا اليوم ، وقد هبت ريح باردة قابلتهم ، ونشأ نوء غليظ وسحاب كثيف ، فنزل الثلج من ضحوة هذا النهار إلى عشيته ، وارتفع فوق الأرض حتى غطـّاها وعلا عليها فسوّاها ، ثم نزل المطر مع الثلج من وقت الظهر إلى وقت العشاء ، ثم أقلع دون أن يروي الأرض ، فعاد القاضي محمد بن عبد الله بن أبي عيسى إلى الاستسقاء في خطبة يوم الجمعة منتصف جمادى الأولى ، وهو اليوم الرابع من فبرير الشمسي […] والإلحاح في الدعاء ، فسقى الله عباده يوم السبت بعده سقيا متصلا ، روّى به بلاده ، فشرع الناس في الزريعة ، وحَطـّت الأسعار وسكن النفار ، ثمّ نزل الغيث من يوم الثلاثاء بعده" .
وقد حفظ لنا ابن حيان نص كتاب عبد الرحمن الثالث [إلى جميع عماله على كور الأندلس] بالأمر بإقامة صلاة الاستسقاء [خلال شدّة 317هـ (=929-930) ، وهذه فقرات من الكتاب] :
            […] "إن الله عز وجل ، إذ بسط رزقه، وأغدق نعمه ، وأجزل بركاته ، أحب أن يشكر عليها ، وإذا زاورها وقبضها ، أحب أن يسألها ويضرع إليه فيها ، [...] ، فأوجبت به الرغبـة إليه ، عز وجهه ، فيه والخنوع لعزته والاستكانة له والإلحاح في المسألة فيما احتبس به ، والتوبة من الأعمال المنكرة التي توجب سخطه ، […] .
وقد أمرنا الخطيب فيما قبلنا بالاستسقاء في المسجد الجامع يوم الجمعة والجمعة الثانية التي تليها ، إن أبطأت السقيا، والبروز يوم الاثنين بعدهما ، بجماعـة المسلميـن عندنا إلى مصلاهم ، أو يأتي الله قبل ذلك بغيثه [...]. فـَمُر الخطيب يموضعك أن يحتمل على مثل ذلك [...]" .
وإلى هنا لم تنفد بعد المعلومـات ، إذ تتكرر الكوارث في سنوات 353 (= 964-956) ؛ و363هـ (= 973-974) ؛ و364هـ (= 975) ؛ و399هـ (= 1008-1009) ؛ و401هـ (= 1010-1011) ؛ و429هـ (= 1037-1038) ، وقد أضرت شدة ذلك العام على وجه خاصّ بإشبيلية ؛ و439هـ (= 1047) . وأحيانا تأتي الأمطار متأخرة عن موعدها ، وعندما تكون جليدا تضيع المحاصيل . هكذا حدث في 11 من ربيع الثاني سنة 361 (= 31 من يناير سنة 972) ، فبعد قحط شديد ، أخذت السماء تمطر ، ولكن في يوم 16 من نفس الشهر والعام (= 2 من فبراير) بدأ يتساقط الجليد .
ينبغي أن نضيف إلى ما سبق أن وادي نهر الوادي الكبير منطقة نشاط زلزالي بارز . ففي حوالي سنة 266 (= 880) وقع زلزال هائل في قرطبة ، مع أن أفضل منه توثيقا زلزالان آخران ، أولهما في 9 من ذي القعدة سنة 332 (= 2 من يوليو 944) بقرطبة ، وثانيهما في شهر جمادى الأولى سنة 565 (= يناير- فبراير 1170) بقرطبة وإشبيلية معا ، وعلى هذا الأخير كان ابن رشد شاهداً.
3- التكيف الطبيعي للنشاط الإنساني
تعود ظواهر إصلاح البنية الفوقية الكبيرة للوسط الطبيعي إلى ماضٍ قريب جدّاً ، بل إنّ تقدّم القطاعين الاقتصاديين : الثاني (الصناعة) والثالث (الخدمات) لا يزال حديث العهد به بقدر أكثر . في العالم الإسلامي الوسيط لم تتجاوز الصناعة أبعد من البناء والحرف ، كما كانت الخدمات قليلة ، وتكاد تقتصر على ما يتصل بالمعاملات التجارية ، وخدمة المسافرين . ولا يمثل استخدام الأرض الصالحة للزراعة اختلافا كبيرا عما كان الأمـر عليه خلال الفترة الهسبورومانية ، وبالمثل لم تكن ثمة اختلافات ذات شأن عما كان مألوفا في الوسط الريفي الاسـﭘاني أوائل القرن العشرين . مع ذلك ، فإن الأندلسيين لم يحافظوا فقط على نظم الري (الموروثة عن العالم الروماني بنسبة كبيرة عما كان يُظنّ من قبل) ، بل زادوا عليها وحسّنـّوها بقدر معتبر ، ومَدّوها حتى المنحدرات الجانبية إلى الشرق والجنوب من السلاسل الجبلية المحاطة بالبحر المتوسط ، وذلك حسبما كشفته دراسات حديثة الظهور . من جهة أخرى ، أدخل الأندلسيون أنواعا جديدة من المحاصيل ، التي يمكن الآن تسميتها بالمترفة ، لذلك وضعت الأساس لتقاليد زراعية (وبالتالي عادات غذائية)  ظلـّت باقية بنصيب وافٍ في بعض مناطق اسـﭘانيا حتى بداية الحرب الأهلية (1936-1939) .
لم تـُحـْدِث ما عرفت في القروسطى الأوربية بثورة الغلال أثرًا في الأندلس ؛ لأنها لسبب بسيط قد كانت متحقـِّقة خلال المرحلة الهسبورومانية ، وظلت قائمة دون تغييرات قاطعة إلى ما بعد الحرب الأهلية . وفي أراضي السِّقي بأحواض أنهار اِبره والوادي الكبير ووادي آنه وشقر وشقورة وطوريا ، التي كانت تزرع فيها الحبوب (بالمثل في أراضي البَعل) ، لم تلاحظ تغيرات ذات أهمية منذ أن أدخل المسلمون الأرز حتى بدايات القرن العشرين ، فيما عدا إدخال الـُّذرة . وإذا ما قورنت المعلومات عن الزراعة والطباخة الإسلامية من القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس عشر (وعن هذا لدينا معلومات كافية في الكتب الخاصة بالزراعة والطبّ وأيضا كتب الطباخة) بتلك الخاصة بالبيئة الريفية الشعبية بمقاطعة أندلوثيا في السنوات السابقة على الأربعينيات من القرن العشرين ، فلن نجد اختلافات كثيرة ، خلا حالة الخنزير، الذي مع أنه وجد بالأندلس ، فإنه لا يظهر في كتب وصفات الطبخ ولم يكن له الدور الرئيس كمصدر للبروتينات والدهون الحيوانية ، وهو ما حازه في الاقتصاد المنزلي في المناطق الريفية الاسبانية حتى الثلث الأول من القرن العشرين . والحقيقة بأن اسم الدهن النباتي الرئيسي في اسبانيا ، أثيتيه aciete (الـزيت) ، المشتقّ اسمه من العربية ، بدلا من استخدام الاسم المشتقّ من اللاتينية  oleo  ، لهو شيء ذو دلالة أكثر من كونه طرفة ؛ ونفس الشيء يجب أن يقال عن هيمنة ماشية الغنم والماعز على قطيع البقر.
أيضا واصلت أنشطة التعدين وصيد الأسماك وتربية الغابات التقليد الهسبوروماني ، باستثناء الانقطاع النسبي في الفترة الهسبوقوطية ، بيد أنها تلقت زيادة قوية . وكما أنه وقتئذ لم تكن تستغل مناجم الفحم ، فإن تقريبا كل تعدين شبه الجزيرة وقع في حوزة الأندلس الإسلامية مع ما تبع ذلك من الأنشطة الحرفية المشتقة من استخدام المعادن المستغلة وبالتالي تصديرها . بالأخذ في الاعتبار نوع صيد السمك السائد ، وهو على وجه العموم الصيد في المياه القريبة ، وأيضا السيادة الشاملة تقريبا على حوض البحر المتوسط الغربي ، ومضيق جبل طارق ، والذراع الجنوبي من الأطلنطي الداخل إلى المضيق ، فقد سهّل هذا بدرجة معتبرة الصيد وصناعة الأسماك المملحة ، وهي صناعة كانت متقدِّمة جدا في شبه جزيرة إيبريا منذ أزمنة سحيقة ، حيث اشتغل بالتجارة فيها بدرجة عالية الفينيقيون أولا ثم الرومان . وتكفي نظرة واحدة على الجزء الإحفاري من معمل تمليح الأسماك الفينيقوروماني في المنكب Almuñécar  (من محافظة غرناطة) للتعرف على أهمية هذه الصناعة ؛ وكما هو معروف جيدا ، فإن رابطة الصيادين ببِجَّانة Pechina (من محافظة ألمريَّة) وصلت إلى ممارسة حدٍّ معلوم من الاحتكار على قطاع صيد الأسماك في كل الحوض الغربي للبحر المتوسط . أما تربية الغابات ، فالبيانات تتفق علي ممارسة هذا النشاط في الفترة الهسبورومانية ، فيما عدا ابتداءً من اللحظة التي طوّر فيها الأندلسيون زراعة شجرة التوت لتلبية احتياجات السوق لصناعة وتجارة الحرير الغالية .
كما وجَد فنّ البناء تقدُّما هائلا في الأندلس منذ بداية تأسيس الدولة الأموية ، وظلّ الأمر كذلك حتى القرن الرابع عشر ، وهو ما يمكن أن يتناقض مع ما كان عليه الحال في الفترة الهسبوقوطية ، ولكن ليس مع الفترة الهسبورومانية التي تحقـَّق فيها جهدا بنائيا كبيرا وتأسيسيا بدرجة رفيعة الشأن . وبنفس هذا الطابع الرفيع تتحلـّى أعمال البناء الأندلسي ، فمن منشآت جلب وتخزين المياه والحمامات العامة والقِصاب والقصور المحصّنة والمنارات والقلاع والمساجد والجسور وغير ذلك ، إلى القصور الخاصة والمنتجعات الريفية وغيرها من منشآت الأرستقراطية والطبقة الحاكمة . لذلك ربما كانت تستقدِم الممالك النصرانية البنائين والمعماريين الأندلسيين لتشييد بناياتهم ، ومن الجائز أن ذلك حدث في وقت شهدت فيه هذه الممالك اتجاها لتكثيف الانشاءات الحضرية ، والتي كان مستواها في الأندلس مرتفعا بدرجة بالغة عما كان عليه في أوروبا المسيحية في ذات الفترة ، وهذا ما يفسر زيادة معدلات البناء الشعبي . كما تعدّ البنية الجغرافية للوسط الطبيعي الأندلسي واحدا من أسباب البناء المشار إليه ، مع أنه يوجد سبب آخر يكمن في نظام الثغور والمناطق الحدودية . رغم ذلك ، وكما سيُؤكـَّد على ذلك في موضعه ، عاش الإسلام الأندلسي بشكل أساسي ، كمّا ونوعا ، على طريقة البناء وأشكال بنايات حوض البحر المتوسط التي كانت مطبـّقة في شبه جزيرة إيبريا إبـّان الفترة الهسبورومانية .
أخيرا ، فـإنه من الضروي عمل إشارة مختصرة إلى بـِنـْية طرق شبه الجزيرة ، فهي محكومة بالشكل الجبلي المعقـّد للبلاد ، ومؤسّسة بطريقة عبقرية معهودة في الطرق الرومانية ، والتي عليها اعتمد الأندلسيون . كان الأمر هكذا لأن الطرق الرومانية قد شكـّلت الشبكة الرئيسية للاتصالات البرية في شبه الجزيرة ، وفيما عدا تغييرات طفيفة ، ظلـّت تقريبا هذه الشبكة ثابتة حتى إنشاء الطرق الجديدة المختطـّة في عهد الملك كارلوس الثالث Carlos III في تمام القرن الثامن عشر . من الممكن أن الطرق الرومانية كانت مهملة على أواخر عهد الإمبراطورية وفي الفترة الهسبوقوطية ، ولكن لم يكن ذلك بدرجة كبيرة كما قد ُظنَّ ؛ فيعطي ابن حيان معلومات عن بعض الصوائف التي استخدمت أرصفة رومانية كان يُعتقد أنها باتت مهجورة . لم تكن الفعالية الهائلة للمحجة العظمى arrecife ، مع ذلك ، نتيجة جغرافية لكن جيوسياسية تتمثل في النظام الثغري . لكن الإسلام الأندلسي بشكل جوهري لم يغير في بنية الطرق الرومانية ، مكتفيا بتقوية أو إعادة بناء البنية الفوقية لهذه الطرق (أعمال البناء) ، حيث أن النظام الروماني كان متوافقا تماما مع البنية الجغرافية : مثل الأرض والشكل والارتفاع والاقتصاد والسكان . حقيقة كان للأرصفة الرومانية هدف سياسي في المحكّ الأخير ، وهو توحيد وربط كل الإمبراطورية مع الحاضرة روما ، الذي كان موقعها مركزيا بالنسبة لحوض البحر المتوسط . وبالمثل كانت شبكة طرق كارلوس الثالث تنطلق من مبدأ مركزي : كل المسارات تبتدئ من عاصمة المملكة .
التقييم الإيجابي للقواعد الطبيعية والجيوقتصادية لشبكة الطرق الرومانية لا يحول دون ذكر بعض الصعوبات ، مثل ضآلة الوصلات للطرق البديلة ، أو المسار المثقل بخوانق جبلية ، أو المارّ بمناطق تقريبا مهجورة . شاعر عربي عندما يروي رحلته من ألمرية إلى غرناطة يذكر صعوبة الرحلة وخشونة الطريق وكثرة غباره في بعض المناطق . فبين منخفضات ويسكر وبسطة ووادي آش وغرناطة توجد بالطريق انقطاعات ، كانت حينئذ تبدو صعبة جدا ، وذات مشاهد طبيعية كالحة على نحو ما ، مثل النواحي المحيطة بـ كويلار وبسطة ووادي آش ، أو تلك الصاعدة من وادي آنه الصغير حتى كويبس دل كامبو . المسافة التي تزيد قليلا على 90 كم ،  وتفصل جيان عن غرناطة ، تعد بمثابة ثلات فجاج جبلية ، وهي كريتيرو وأونيتار والزغري ، والتي تحسنت فقط في أيامنا هذه . ولا طريقا من الطرق التي كانت تربط قرطبة بغرناطة كانت سهلة ، وبعضها مثل الوصلة من إزنخار إلى لوشة ، كانت فقط صالحة للقادة الماهرين . هذه الانقطاعات ستؤثر بشدة على الثغور والمناطق الحدودية ، وستسهل الاتجاهات الطردية من الحكم المركزي في الإسلام الأندلسي .
4- المشكلة السكانية
المشاكل السكانية في العالم السابق على العصر الحديث هائلة ، بل حتى توجد صعوبات جـِدّيّة فيما يخصّ القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ لذلك كان ينبغي إما ترك هذه المشكلة جانبا ، أو طرحها بمنهج مختلف عما هو معتاد حالما تتوفر تعدادات موثوق بها . ولأن المؤرخين غير معتادين على الموافقة على التنازل ، فإنه من الضروري اللجوء إلى الطرق المنهجية الموازية : الاستقراء السلبي انطلاقا من الجزء الذي يشمل المِفصل السابق على التصاعد السكاني من أواسط القرن الثامن عشر ، بالإضافة إلى دراسات السجلات والأماكن المسكونة وسطح المراكز الحضرية وغير ذلك .
كانت الدراسات السكانية الحديثة تثبت أن نمط زيادة السكان في أوروﭘا الغربية يمثل منحنى تصاعديا ذا قطاعين محددين بوضوح: الأول حتى سنة 1700م على وجه التقريب ، بزيادة سكانية ضئيلة جدّا ؛ والثاني ، ابتداء من هذا التاريخ ، بزيادة سكانية متلاحقة ومتصاعدة . لا توجد أسباب كافية وعلمية لاعتبار أن نمط زيادة السكان في شبه جزيرة إيبريا كان مختلفا عن مثيله في فرنسا وانجلترا وإيطاليا ؛ وليس من الشطط التفكير بأن التقدم البطيء لسكان اسـﭘانيا فيما بين 1500 إلى 1700 على وجه التقريب (بالضبط فيما بين 1487-1497 و 1717) جاز حدوثه أيضا في العصـور القديمـة والوسطى . واستقراء خط التراجـع السكانـي في مجموع السنــوات من 1487 إلى 1497 : 7.100.000 ؛ سنـة 1541 : 7.414.000 ؛ السنــوات من 1591 إلى 1594 : 8.485.000 ؛ سنة 1717 : 7.500.000 ، يُعطـي التقديرات الممكنة التالية :
الســـــنة                 عـدد السـكان
300                     4.910.150 
   500                  5.328.140
700                     5.746.730  
900                     6.165.020
1100                   6.583.310
1300                   7.001.590
1400                   7.210.740
إذا قارنا الأرقام السابقة ببيانات سكان شبه جزيرة إيبريا في الفترات الهسبورومانية والهسبوقوطية والوسطى ، فإنها لا تبدو غير مناسبة . بعيدا عن تأييد النظرية القائلة بحدوث إفقار سكاني نسبي كان قد قلل عدد السكان في عام 700 إلى حوالي 2.500.000 ، فالدراسات عن السجلات وبقاء شبكة الطرق ، والأماكن المسكونة ، والمحيطات الحضرية للمدن الهسبورومانية (مثل أستورجة وبرشلونة وبراجة وقادش وكـُنينبريغا وايبورا وليون ولوغو وماردة وطليطلة وسرقسطة ، من بين مدن أخرى) ، والتقديرات التي قام بها الأستاذان لاكارّا وتـُريس بَلباس عن السطح الحضري لمدن القروسطى ، كل ذلك يؤكد وجود عدد كبير من السكان في الفترة الهسبورومانية ، ثم انكماش سلبي في أواخر فترة الإمبراطورية الرومانية وفترة الغزوات لأجنبية ، تبعه ارتفاع إيجابي في العصر الوسيط .
حقيقة لم تكن هسـﭘانيا الرومانية مكتظة السكان مقارنة بفترة العصر الوسيط ، كما يمكن أن يظهره التصور التصـاعدي لبيانـات ﭘلينيو Pilino عن نواحي الأشتورييـن ، في لوغو وبراغا ؛ ولكن بقايا الأحافير تؤكد أن هذه المناطق كانت عامرة للغاية بالسكان مثلما كانت طركونة وباطقة . الحفائر تحت أرض كاتدرائية كومبوستيلا وما حولها ، وكذلك عملية تنظيف سور لوجو ، أظهرت أن مركز السكان بسانتيجو في عصر الإمبراطورية الرومانية وعصر السويف كان مهما لدرجة أنه وجدت بعض الحمّات في العصر الأول من العصرين المذكورين مثلما كانت هنالك مقبرة كبيرة في العصر الثاني ؛ أيضا تبرهن العملة الرومانية المعثور عليها في أحد الاستحكامات الحربية خارج أسوار لوغو على أنه كان موطنا كبيرا للسكنى وليس معسكرا حربيا محضّا . قد يبدو من غير المعقول نفي أن الأحوال الأخيرة في أواخر الإمبراطورية وخلال فترات الغزو كانت تساعد على تذبذب سلبي في عدد السكان ، ولكن لم يهبط أبدا عن أكثر من خمسة أو ستة ملايين نسمة في الفترة الهسبورومانية إلى مليونين ونصف المليون . من جهة أخرى ، إذا قبلنا بهذا الانحدار في عدد السكان على أواخر الفترة الهسبورومانية (القرن الخامس) ، فإنه منطقي القبول أيضا بتذبذب إيجابي في عدد السكان في القرن السادس ؛ لأنه فقط في النصف الثاني من القرن السابع شهدت البلاد مرة أخرى حالة اقتصادية سلبية : انهيار القيمة النقديـــة للعملـة الذهبيـة القوطيــة el triente ، بدايــة القمـع الاجتماعـي الذي مارســه شنداسفنتوChindasvinto  ، المحاصيل السيئة والمجاعة في عهد ايرفيغيو  Erwigio   ، ثم الأزمة الشاملة خلال عهدي اخيكا Egica  وغيطشة Witiza .
مِثل فرضية عدد السكان هذه خلال الفترات الهسبورومانية والهسبوقوطية والوسيطة العليا (أي خلال القرنين الثامن والتاسع) ، حاشا التذبذبات المعتادة ، يفترض أنه لا يجب أيضا تغيير توزيع السكان بالمناطق الجغرافية . دون أدنى شك ، فإن انتقال البلاط القوطي من نربونة Narvona  إلى برشلونة ، ثم إلى طليطلة ، واستقراره النهائي في هذه المدينة الأخيرة ، أو ثقل منطقة باطقة خلال الدورة الثقافية الإيسيدورية ، أدى إلى إدخال تعديلات طفيفة ، والتي لعلها حدثت أيضا في جليقية على إثر انهيار مملكة السويفي . مع ذلك ، فمن المعروف بشكل جيّد أن التغيير الأول الكبير في توزيع السكان حدث فيما بعد ، ولم يكن بسبب الضغط الإسلامي - الذي أدي فحسب إلى هجرة جزء من طبقة النبلاء القوطية - ، لكنه حدث على إثر الغزو المسيحي وما تبعه من نظام المستوطنات والقرى ، وهو ما يخرج عن حدود وغرض هذا الكتاب.
5- رَوْمَـنـَة هِسـﭘانيـــــــــــا
فيما عدا ما تمّ إنجازه في حقلي الأنثروبولوجيا وعلم الآثار بشأن عصر ما قبل التاريخ ، فإن المعلومات العلمية بالغة الدقة حول إيبريا البدائية لا تزال قليلة جدا . فثمة عناصر ضئيلة عن الإطار السوسيوتاريخي ما قبل العصر الروماني ذات قيمة مهمة لشرح البناء الاجتماعي لشبه الجزيرة ، والتي هكذا ما زالت تشكـِّل الرؤية الذاتية والمحدودة في الزمان والمكان للمستوطنين الفينيقيين واليونانيين . الأكثر تأكيدا واستمرارا هو طابع جسر مضيق طارق ، والإشعاع من الجنوب إلى الشمال ، مثل حالة الحضارة الأرغَرية Argárica  ، والتنظيم القبلى القوي ، والعلاقة القبلية فيما بين سكان إيبريا . تؤكد المستوطنات الفينيقية واليونانية ، حتى محاولة الهيمنة الاستعمارية القرطاجية ، مدى قـِدَم وقيمة الاتصال البيني بحرمتوسطي ، وكذلك الدائرة الأطلسية البحرمتوسطية . كما ألحّ اليونانيون والرومان بشكل متكرر على الشخصية شديدة المراس للسكان الإيبريين ؛ والحقيقة بأن اللغة الوحيدة مما قبل العصر الروماني وليست هندأوربية ولاتزال باقية في أوربا الغربية هي البسقونية أو لغة الباسك  euskera، يبدو أنه يشفع لصواب الوصف المشار إليه . المقاومة العنيدة للأشتوريين والكنتابريين والبسقونيين ، والتي امتدت حتى العصر الوسيط (جدير بالذكر ان لذريق كان يحارب في الشمال عندما كان طارق ينزل بجنوده في الجنوب) ، تؤكد أن احتلال ساحل كانتبرية كان دائما موضع صراع ، خالقا صعوبات كبيرة للرومان والقوط ، مثلما كان بعد ذلك للمسلمين وشارلمان . لا تبدو غير معقولة الفرضية القائلة بأن اسم "قشتـالة Castilla" ، بعيدا عن القول بأنه يأتي من القـــــلاع  los castillos  التي انطلق منها المقاومون المسيحيون في وجه المسلمين ، يعود أصله إلى الحصون التي شيدتها الحاميات الرومانية لحماية أعالي وادي نهر الابرو من الغارات الآتية من الشمال .
اعتمد البناء الاجتماعي الذي أوجده فيما بعد الفاتحون المسلمون بشكل أساسي على البناء المعقد الذي أبدعته عملية الرومنة . التنظيم الاجتماعي الاقتصادي والسياسي التشريعي الروماني قاطع ؛ إذ أن التجانس الاجتماعي للسكان الحضريين كان كبيرا جدا ، كما أن التثقف الوثني بديانات السكان الأصليين قام بدور المشذِب ، وعمل نظام الأسواق الحضرية على استقرار الاقتصاد ، وكوّن نظام العبودية – الغالب على الزراعة – المجتمع الريفي . كانت النتائج حاسمة في زيادة مستوى المعيشة ، وفي الثقافة ، وتطور المدن ، والنمو السكاني . وبقي النظام مبنيا بحكمة على الاقتصاد الاستيطاني ، والجيش المستعْمِر ، وشبكة الطرق (لا يزال يقال إن كل الطرق تؤدي إلى روما ، رغم أنها بمعنى انتقال) والمدن المتجانسة ، والقانون العام . علاقات الإنتاج في نظام الرق الروماني حاسمة : يتلقى القطاع الزراعي دفعة متنامية ، خاصة في الحبوب والزيت والنبيذ والماشية ، التي كان لها سوق قوي وراسخ في العصر الإمبراطورية . شيء مماثل يجب أن يقال عن الأوجّ الخرافي للتعدين ، من الممكن أن يكون مبالغ فيه من جانب المؤرخين ، لكن منْ استطاع زيارة البقايا الآثارية للمناجم الرومانية يعلم أن الحقيقة أحيانا ما تفوق الخيال ؛ ونفس الشيء ينبغي أن يقال عن صيد وتمليح الأسماك .
لا يمكن نفي البناء الاجتماعي الهسبوروماني الواضح الذي أبدعته الرومنة ، بيد أنه لا يمكن أيضا تعميمه ؛ فالفرضية بوجود نسيج اجتماعي عام لا يكون متنافرا مع التوزيع غير المنتظم في المكان والزمان . المؤلـّفون القدماء إذ ألفوا أنفسهم إزاء قواعد اجتماعية جلية : أحرار وعبيد ، مواطنين وموالي ، عشائر عائلية ، إلى آخره ، فأعطوا لنا نمطا أصبح بعد ذلك مُنـَظـّرًا من جانب مدافعيه ومنتقديه ؛ ولعل الحل الوسط الأكثر واقعية كان على النحو التالي : أرستقراطية (طبقة السناتو وطبقة الفرسان) ، أوليجاركية الولايات (طبقة حكام الأقاليم) ، عموم السكان الأحرار (العامّة والأتباع) والعامّة المُعْدَمون (العبيد) . لكن ، إلى جانب هذا البُعد الروماني بقي دائما ، بدرجة كبيرة أو ضئيلة ، في المقام الأول ، الأصليون من شعوب وعشائر وأهل مائة ، و الأغراب في المركز الثاني .
يكتسب النسيج الاجتماعي أهمية كبيرة إذ ما عـُرض على التقسيمات الإدارية . وأكثر ما يهمنا في حالتنا الراهنة هو الشكل الأخير المتحقق في عام 385 الذي نظـَّم عَمَل هسپانيا في سبعة ولايات : باطقـة Baetica ، ولشدانية Lusitania ، والولاية القرطاجنية  Carthaginensis ، وجليقيــة Gallaecia ، والولايـة الطرَّكونيـــة  Tarraconensis، ومرطانيـة الطنجيـة Mauritania Tingitana ، والجزائر الشرقيةBaleares  . يعطي هذا التقسيم سمات فريدة جدّاً : باطقة ولشدانية احتفظتا بوضعيتهما منذ عهد أغسطس ، الأولى بأربع قواعد (إشبيلية  Hispalis  ، وقرطبة   Corduba وقادس  Gades واستجة Astigi) ، وثلاث للثانية (باجة Pax Augusto = Beja  ، وماردة Emerita Augusto =  Merida  ، وشنترين Scallabis = Santarem ) ؛ وعلى العكس من ذلك ، من الولاية الطركونية على عهد أغسطس تشكلت جليقية من القواعد التالية : براقرة أغسطسBracara A.   ، ولوجو أ.  Lucus A ، وأشتوريش أ.  Asturica A ؛ والولاية القرطاجنية من قرطاجة الجديدة Cartago Nova  ، وجزء من كلونيــا  Clunia؛ وهكذا أصبحت الولاية الطركونية منذ أواخر الإمبراطورية الرومانية مقتصرة على القواعد التالية : طركونة و سرقسطة Caesar A. = Zaragoza  والجزء الشمالي من كلونيا . يشير هذا التوزيع إلى مشاكل ذات طبيعة جغرافية وسكانية ، والتي – بالإضافة إلى المعلومات التي يذكرها ﭘلينيو في كتابه Historia Natural  (الكتابان الثاني والرابع) – تـُبـَيـِّن بداهة مدى قوة التنظيم العمراني لولاية باطقة من جهة ، وافتقاد التجانس في الولاية الطركونية الأغسطية من جهة أخرى ، أي في ولايات جليقية وقرطاجنة وطركونة في آخر عصر الإمبراطورية الرومانية .
6- الانقطاع الجزئي للبنية الهسبورومانية
الانهيار التدريجي لبنية الإمبراطورية الرومانية لم يعن أبدا الانقطاع التام ؛ فالذي انتهى بالتلاشي ، ولم يكن قط بشكل فجائي ، كانت السلطة السياسية المركزية الرومانية . ولفهم هذا التغير ينبغي الإشارة إلى ثلاث ظواهر سوسيوتاريخية كبيرة : الغزوات الخارجية ، وثورة الفلاحين ، وتراكب البناء السوسيودينى المسيحي .
بالنسبة للغزوات الخارجية ، فإن الغزو الأول الموثق كان من قبل القبائل الموريتانية خلال مُلـْك ماركوس أورليوس Marcus Aurelius (161 - 180) التي نهبت جزءا من شبه الجزيرة ، وعلى وجه الخصوص باطقة حيث انتقل إليها الفيلق السابع المعزز ، وأجبر الموريتانيين على التراجع إلى شمال أفريقيا عام 175 . وخلال حكم جاليينوس Gallienus (253 - 268) قامت جماعات من الألمان والفرنجة بالتوغل من جهة الـﭘُرتات حيث نهبوا بعض المدن من ولاية طركونة ، ثم عبروا إلى أفريقيا . وحَدَث الغزو الأكبر في عام 409 ، والسهولة والسرعة التي تمّ بها يجب أن تكون مرتبطة بالوضع الإجمالي للإمبراطورية الرومانية .
أما عن الثورات الاجتماعية ، فيعرف أن قيام ماتيرنو Materno في عهد الإمبراطور كومودوسCommodus  كان له صدى في هسبانيا ؛ ولعل انتزاء آخر حدث حوالي سنة 275 لأن اللقايا الآثارية تؤكد وجود تدمير في عدد من المدن ؛ كما أنها ثابتة ثورة 285 ، إذ أن ماكسيميانوسMaximianus  حارب البوجاديينbaugadas  في غالة وهسبانيا . وتشهد المعلومات المستمدة من إداسيوIdacio  في حوليته Crónica على ثورات القرن الخامس التي امتدت خلال فترة القوط الغربيين (سنوات : 441 ، 443 ، 449 ، 454 ، 456م) .
ولكن يكون أكثر تعقيدا وصعوبة التأريخ بشكل علمي لظاهرة المسيحية الهسبانية ؛ إذ نجهل تاريخ بداية التنصير في شبه جزيرة إيبريا . القول بأن ذلك كان على يد القديس بولـُص الرسول ، إنما هو افتراض يستند على أمنيةdesideatum  في رسالة لهذا الحواري بالذهاب إلى هسبانيا ، ولكنه ليس مثبتا تاريخيا ؛ كما أن الرواية المتواترة عن الحواريين السبعة تخلو من كل سند وثائقي واجتماعي . أخيرا ، فإن فرضية قيام سنتياجو بالتبشير في هسبانيا محالة بالحساب الزمني ، فما يؤكده الأساس الاجتماعي غير المشكوك فيه (موضع ممارسة الطقوس الدينية الخاصة بسانتياجو وأصوله الآثارية المكتشفة في كنيسة كومبوستيلا) هو قِدم نظرية انتقال رفات سانتياجو أو تطابق هذا الموضع مع مكان لمعبد وثني (مذبح للإله جوبيتر ظهر في الحفائر وهو الأصل ما قبل المسيحي للقاعة البدائية) . على العكس من ذلك ، فقد قـُلـِّل من شأن الخلافات الطبيعية بين الحالة الدينية للمسيحية في كل من باطقة والولاية الطركونية ، بالرغم من وجود معلومات بالغة الأهمية ، مثل التي عن المجمع المعروف بمجمع إلبيرة Concilio de Iliberris  ، وكذلك عن تطور التفسير الروحي البريسلياني . وفي حين لا تظهر معلومات يقينية عن النظريات التقليدية الخاصة بأولية دخول المسيحية هسبانيا ، فإن الفرضية الأكثر قبولا هو الأصل الشمال أفريقي للمسيحية في باطقة ، والمتأصل ليس فقط مع كنيسة قرطاجة ، لكن حتى مع كنيسة الإسكندرية . فجدير بالتذكير أن القديس أتناسيو (= أثناسيوس) ، الموحي المحتمل في الدهاليز الخلفية بهومُوية الصورة النيقية ، عُزي تمثيله في مجمع نيقا إلى أوسيوOsio   (= هوسيوس) ، مطران إلبيرة Iliberis ، ذلك الحبْر المرتبط بعلاقة وثيقة مع حكومة قسطنطين الإمبراطورية . الأمر بأن ينسب – بشكل غير واضح – مؤرخ المجمع ، يوساب القيساري Eusebio de Cesarea  ، إلى قسطنطين رئيس المجمع استخدام هذا اللفظ والمفهوم الأفلاطوني الحديث الضمني (الهوموية) ، لهي حيلة قانونية بـَيـّنة ؛ وفي هذه الحالة يبدو أن الرئيس الفعلي للمجمع كان الأسقف أوسيو الذي كان يشكل حينئذ واحدا من وجوه البلاط الإمبراطوري .
على أية حال ، كانت الجماعات المسيحية الهسبانية منظمة ككنائس منذ القرن الثالث في مدن على قدر من الأهمية وذات تقليد روماني . إذا ما قورنت معلومات القرن الثالث مع تلك التي لدينا عن الكراسي الأسقفية التي كان متولوها المطارنة قد شاركوا في مجمع إلبيرة في أوائل القرن الرابع ، لأمكننا أن نحصل على فكرة تقريبية عن مدى كثافة وحالة أوليـّة المسيحية في شبه الجزيرة . ينبغي مع ذلك أن نضع في النصف الثاني من القرن الثالث قوة التلاحم الاجتماعي للجماعات المسيحية ، تلك القوة التي كانت تسمح بفرض مبادئ اجتماعية غير متطابقة مع القواعد التشريعية الإمبراطورية . فطبقا لتعاليم بولص الرسول تحطمت الهيمنة العائلية والاجتماعية والسياسية بفعل ما نادى به من المساواة بين الأحرار والعبيد ، الرجال والنساء ، ومن رفض وصاية الديانة المدنية الإمبراطورية ، إلى غير ذلك من المبادئ التي يمكن أن تصور مدى الصدمة التي سببتها في الهيكل الهسبوروماني . إذا كان للجماعات المسيحية ، فيما قبل اعتناق الإمبراطور قسطنطين المسيحية حينئذ ، القوة التي أظهرها مجمع إلبيرة ، فبعد التحول الرسمي ساهم عاملان على إضفاء الصفة الرسمية المزدوجة للمسيحية ، الأول أن الإمبراطورية تنصرت بشكل رسمي ، والثاني أن الجماعات المسيحية قبلت فعليا ما كانت من قبل لا تسمح به ، متحولة إلى ديانة مدنية للإمبراطورية الرومانية على عهد قسطنطين وخلفائه . من هنا تبرز الأهمية الكبيرة للإصلاح الإداري القسطنطيني للأسقفيات المسيحية ، التي أصبحت فيما بعد قاعدة للتقسيمات الإدارية الإسلامية . على هذا النحو ، وبالرغم من غزوات القوط الغربيين وقيام مملكتهم في هسبانيا ، فإن البناء الاجتماعي الهسبوروماني لم يختف ، لا فعليا ولا قانونيا ، فيما بين سنتي 409 و 711م .
خلال الأعوام من 409 إلى 507 دخلت مجموعات جرمانية مختلفة (السويف والوندال والآلان والقوط الغربيون) شبه الجزيرة واستقروا بها وقتا ما وعلى وجه من الوجوه . اثنتان من هذه الجماعات المستقرة أدتا إلى قيام قوتين سياسيتين ، وحلـّتا محل السلطة الرومانية . هاتان القوتان هما السويف في جليقية القديمة ، والقوط الغربيون في الأراضين الممتدة من نربونة إلى باطقة ، بعد أن حلوا محلّ الاحتلال البيزنطي الذي استعاد هذه المنطقة الأخيرة وجزء من قرطاجنة . في البداية غطـّى نمط إقطاعي فِعلي الفراغ الشكلي الإمبراطوري تحت نظام سياسي جديد ، الذي أتاح الاحتفاظ الجزئي بالسياق الاجتماعي ذي الصبغة الرومانية وبتطور البناء الفوقي الذي كان قد بدأ منذ أواخر العصر الإمبراطوري . عَددُ الجرمان الذين استقروا لم يتجاوز نسبة الـ 2% من عدد السكان ؛ مع ذلك ، لو كان هذا العدد الضئيل من السادة استخدم بفعالية الشبكة الإدارية الرومانية ، لكان الصدام الاجتماعي قاطعا ، لكن لم يحدث هكذا . فالسكان القوط بدأوا بتفضيل مناطق معينة لاستقرارهم وظلوا يستخدمون تقاليدهم التشريعية الخاصة ، وإن كانوا حينئذ مصطبغين جزئيا بالصبغة الرومانية ؛ لذلك بقيت الشبكة الإدارية الهسبورومانية في أيدي الكنيسة ؛ هذا الوضع المزدوج استقر جيدا مع التغير في النظام : الانتقال من الإقطاع الإمبراطوري إلى نظام السادة الإقطاعيين ، المتوافق مع الصبغة الريفية للنظام الاقتصادي مع الاحتفاظ بالملكيات الكبرى أو نموها . كانت نتائج الاقتصاد الكليّ : زيادة الوحدات الكبرى للإنتاج الزراعي ، مع فقدان التجارة الخارجية وضعف التجارة الداخلية ، وانحدار مستوى الاستهلاك وانحطاط مستوى الذوق .
أما فيما يتعلق بالنظام السياسي ، فإن مسـاره التطوري كان بديهيا داخل البنـاء شبه الثابت . إذ انتهى الشكل الإمبراطوري ، الذي كان قائما عن طريق الإقطاع الفعلى ، بزوال شرعية الإمبراطورية الرومانية في الغرب في سنة 476 ، ونتيجة لذلك انتقلت السلطة السياسية إلى مَلـَكيـّة أولى للقوط الغربيين لم تستطع أن تمتد إلى أبعد من عهد أخيلا . ثم أدّى الصراع على السلطة مع البيزنطيين والسويف إلى ظهور المَلـَكيـّة الثانية ، وهي المملكة الهسبوقوطية في طليطلة ، التي بدأت بحكم اتاناخيلدو ، والتي كانت قضيتها الأساسية هي توحيد كل أرض شبه الجزيرة في إطار السلطة الاجتماعية القوطية ، وهو ما حققه ليوﭭخيلدو Leovigildo ، لكن بلوغ ذروته كشف عن عدم ملاءمته مع القاعدة التركيبية الحقيقية للنظام ، وذلك عندما تمرد سان هِرمِنِخيلدو San Hermengildo . وكان الإصلاح الإداري ، الذي كانت صبغته الجرمانية في قانون اوريكو Código de Eurico هي نقيض لما هو روماني بيزنطي أكثر مما هي تركيب من كلا الوضعين ، أحد مفاتيح المشكلة . وكان انفصام روابط النسب الاجتماعي عن طريق النوع الإقليمي للرعية ، والمحاولة الفاشلة لإدماج القوط والهسبورومانيين معاً ، والغرض الخائب الرامي إلى محاباة القومية الدينية الأريوسية ، وإقرار الخدمة الإجبارية الأميرية ، كل هذا كان يبرهن على عيوب تركيب النظام ، والذي أدى إلى قيام المـَلـَكيـّة القوطية الثالثة (589 - 711) .
كان لتلاحم البناء الاجتماعي الكنسي ، والذي كان هسبورومانيا معمّدا ، خلال فترة الانتقال من الملكية الثانية إلى الثالثة ، تأثير أكثر من الوزن غير المشكوك فيه للمشكلة الدينية (من المحتمل أن عقيدة أثاناسيوس كان يؤمن بها أكثر من تسعين بالمائة من السكان) . فهذا كتاب التشريعات Liber Iudiciorum (الصادر عام 654) يغفل كثيرا من التقلبات المعادية للرومان إبّان المَلـَكيـّة الثانية . ولأن الاندماج حينئذ لم يكن له قط سمة عامة ، فإن التحالف الاجتماعي كان شرطا ضروريا لكي تحقق طبقة النبلاء الإقليميين من الأدواق والقمامسة تحكما نسبيا في الإدارة السياسية . لكن هذا التوافق كان مستحيلا دون القبول بالنظرية القنسطنطينية ، التي كان يدعمها بشكل مبهر سان ايسيدورو ، القائلة إن المسيحية هي الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية ؛ وعندما تحطمت الإمبراطورية ، أصبحت الكنيسة وريثتها الطبيعية . لذلك ، فإن الأمم جزءا من الكل غير المتجزء للمسيحية ، والسلطة الزمنية المتولدة والفعلية للملك تصدر من السلطة الوحيدة الكونية الحقيقية التي هي سلطة الله ، وهنا تحت ، على الأرض ، تمثلها كنيسته . تقول الحكمة القديمة : "يكون ملكا إذا عمل بالعدل ، وإذا لم يعمل لن يكون ملكا" ، ويفهم هذا بمعنى إذا عمل بالعدل طبقا لرأي الكنيسة . وتكفي إعادة قراءة قوانين مجامع طليطة لنفهم الحقيقة الاجتماعية البديهية لهذا المبدأ . على هذا النحو استطاعت طبقة النبلاء الإقليمية السيطرة على السلطة ابتداء من سنة 680 (عزل ومبا) ، وظلت محتفظة بها حتى الفتح الإسلامي ، ومحاولة الإبقاء عليها بعد ذلك ، مثل حالة أبناء غيطشة ، وتدمير (منطقة مرسية) ، وبنو قسي في الثغـر الأعلى (سرقسطة) ، أو خصومهم في الممالك المسيحية الوليدة . ولا شكّ أن التحالف الاجتماعي كان له عناصر إيجابية ، وربما ترى في الدائرة الثقافية الإيسيدورية ، المرتبطة جدا على كل حال بمنطقة باطقة ، والتي كان خسوفها السريع علامة بكل معنى الكلمة . ونظرية التعاون الكنسي مع الغزاة (لجدير بالذكر الإشارة إلى خرافة الخائن الأسقف دون أوبوس don Oppas) ، والتحالفات مع أبناء غيطشة ، وقبول التقسيم الإداري القنسطنطيني ، كل هذا علامات ، ليس على كرم الفاتحين ، لكن على الواقع الاجتماعي الذي وجده أولئك .

¨ هذه هي ترجمة الفصل الأول من كتاب "الإسلام بالأندلس" (مدريد ، 1996 ، وظهرت طبعته الأولي أيضا في مدريد 1992) للمستعرب الاسباني Miguel Cruz Hernández  ، وقد نشرت جريدة القدس العربي ترجمتنا لمقدمة الطبعة الأولى للكتاب المذكور بعنوان "تأملات في ماهية الأندلس" (16 تموز 2007) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق