الثلاثاء، 23 يوليو 2013

فرنسا بين سياستين في المغرب الأقصى

سياسة الصراحة ، وسياسة النفاق *

الكابيتان أدينو ( من كبار رجال فرنسا في المغرب) يعلق سياسة فرنسا الصرحية
(فصل من كتاب « محور السياستين » تأليف الكابيتان أدينو)

            لو لم يكن في هذا العدد من الفتح غير هذا النذير العظيم الموجه إلى جميع المسلمين من الكابيتان أدينو مدير الاستخبارات لمدينة فاس وضواحيها ، لكان كافياً لتفكير أسبوع كامل . فليقرأ كل مسلم هذا الفصل ، ثم ليكرر فراءته ثانية ثالثة وفي كل يوم إلى أن يصدر عدد الفتح الآتي . فإن الكلام الوارد في هذا الفصل جدير بأن نجعله كانا نصب أعيننا ليزاح ستار الغفلة من أمامنا فنستيقظ للواجب
            أرجو من كل مسلم تبوأ مكانة في الإسلام : من ولاية أو إمامة أو وجاهة أن يقرأ هذا الفصل بإمعان ثم ينظر ماذا يترتب على الرجل المسلم من واجب تجاه ذلك . وأرج من كل من يستطيع أن ينكر المنكر بيده أو لسانه أو قلبه أن يسأل ضميره : هل هو مُطالَب بشيء بعد قراءة هذا الفصل أم لا؟
            كاتب هذا الفصل – الكابيتان أدينو – من كبار رجال السلطة الفرنسية في المغرب الأقصى ومن أقدمهم ، فهو هناك من أيام ثورة أبي حمارة (السيد محمد السملالي الفقيه) التي نشبت سسنة 1327 هـ إلى الآن ، ولعل الكابيتان أدينو لم يزايل الخدمة في المغرب الأقصى إلا مدة الحرب العظمى ثم عاد ليدير الدفة ويسير بالمغرب الأقصى إلى الغاية التي توافق اقتناعه ويقينه .
            لما رفَعتْ هذه الصحيفة الصغيرة (الفتح) أولَ صوت في العالم الإسلامي منذِرةً بما يجري بالمغرب الأقصى ، وجعلتْ تكرر النداء والهتاف حتى سمع الناسُ صوتها ، كان كثيرون من المسلمين المتعقلين يسألوننا : أين هي المستندات على صحة ما تقولون أنه قد وقع في المغرب ؟ ونحن إنما كنا نعتمد فيما ننشره على ما يكتب إلينا به أصدقاؤنا ومواضع ثقتنا من رجال المغرب مستصرخين مستنجدين ؛ ولو بحنا بأسمائهم لكان ذلك سبب خراب بيوتهم . ولكن المفوضية الفرنسية قد كفتنا المئونة في هذا الأسبوع فنشرت بلاغاً رسمياً اعترفت فيه بنصف ما قلناه ؛ فإذا الظهير السلطاني الذي أشرنا إليه تذكره المفوضية الفرنسية بتاريخه الذي أعلناه ، وإحلال عادات البربر محل الشريعة الإسلامية في الزواج والميراث وسائر الأحوال الشخصية تعترف المفوضية بحصوله بالصيغة التي قلناها، وكون عادات البربر وتقاليدهم تخالف قواعد الشرع الإسلامي قد سَّلمت به المفوضية الفرنسية وذكرته في بلاغها . فكل ما يشكو منه العالم الإسلامي مما يتعلق بتغيير أحكام الله مسلَّم به في البلاغ الفرنسوي ، وغاية ما في الأمر أن هذا البلاغ لم يُكتب بأسلوب « السياسة الصريحة » التي يدعو إليها الكابيتان أدينو ويعلنها جهرة ولكنه مكتبو بأسلوب السياسة الأخرى ، ولذلك سكتت المفوضية الفرنسية عن القسم المتعلق بمنع تعليم القرآن وعن شحن منطقة البربر بألف راهب مبشر .
            نعم ، إن الفتح لما رفعت صوتها منذرة العالم الإسلامي بما يجري في المغرب كان المتعقلون يطالبونها بالمستندات ، ولكنها الآن وهي ترفع صوتاً أعلى بالإنذار الفصيح لا تحتاج إلى مستندات ، بل يكفي أن تنقل الكلام الآتي عن كتاب ألفه الكابيتان أدينو باللغة الفرنسية ، ثم أُذِنَ بنشره باللغة العربية ، فطبع بالمطبعة الجديدة في مدينة فاس ، وفي أوله مقدمة بقلم المؤلف نفسه يقول فيها للمغاربة :
            « يلوح لي أن الذين يحبوننا في المغرب قليل عددهم ، ولكن فيمَ هذا العداء ؟ »
            « ألم تسفك فرنسا دماء أبنائها في المغرب أنهاراً [1] ؟ ألم تبذل الذهب فيه أمواجاً [2] ؟ ألم ترسل لكم الجم الغفير من رؤسائها وأطبائها لتزويدكم بالخيرات النافعة [3] ؟ »
            « ربما قلتم : نحن لم نكن من الساعين في طلب هذه الحماية الأجنبية وإنما أكرِهنا عليها إكراهاً ، ودليله عدم قبول الجبليين والحضريين – ولو بعد عشرين سنة – كلَّ تدخُّل أجنبي » .
            هنا يقول الكابيتان أدينو للمغاربة :
            « إن بالعالم أسراراً شتى ... ذلك ما نسميه نحن بالضعف الاجتماعي وتعرِّفونه أنتم بالقَدَر . وإذا قُدِّرَ على الإنسان موته وكان أمراً محققاً فالأجدر به أن يتلقَّاه بعافية ، ويسير نحوه بدون احتضار ولا نزاع » .
            « دامت مقاومة المغرب لنا عشرين سنة فمات فيها العديد العظيم من كلا الحزبين ، ولعل هذه هي الساعة التي ستضمحل فيها تلك المقاومة » .
يريد أن يقول لهم : إنكم قاومتمونا حتى عجزتم عن إخراجنا ، فيجب عليكم أن تذعنوا للأقدار وأن تستسلموا لنا وتقبلوا ما نرسمه لكم من خطط وأنتم راضون مبتسمون ، حتى لو كان في هذه الخطط موتكم القومي والملِّي ، فيجب أن تتلقوا هذا الموت بالابتسام والمسرَّة .
            هذا ما يقوله الكابيتان أدينو في المقدمة العربية لكتابه ( من صفحة 4 إلى صفحة 6) . ثم هو يقول في الكتاب نفسه ( من صفحة 204 إلى صفحة 208) وهو ما أرجو من كل مسلم أن يطيل التأمُّل فيه :
            « ما نريده هو أمر عظيم يصعب الحصول عليه ، وكم وددتُ بيان المنهج الذي يجدر بفرانسا أن تسلكه مع هؤلاء المسلمين ، فأقول اليوم :
            « أصحيح أننا نود بقاء المسلمين علىما هم عليه من حالتهم ؟
            « أفي مقصدنا أن نردَّ للإسلام زهرة علومه ومعارف ، فنكون متكلِّفين بنشر القرآن والسنة فيما بين المسلمين ، أو أن دعوانا هذه مجرد كذب وافتراء وزندقة لنتوصل إلى جلب قلوب المسلمين وأنفسهم إلى جانبنا ؟
            « أمِنَ الفائدة الصالحة لنا أن نرقي درجة تلقين العلوم بهذا القطر ؛ أم نتركها على ما هي عليه ؟
            « الجواب هو أن الخطر لاحقٌ بنا ، سواء في حالة ترقية علومنا أو علومهم ؛ لأنهم إذا ما تعلموا وتنوَّرت أفكارهم تيقَّنوا بأنهم غير محتاجين إلى وجودنا ببلادهم .
            « ومجرد ثلاثين سنة كافٍ لنهضة هذاالقطر الفائق أهله حذقاً ونشاطاً ، حتى يصير كاليابان ، فيقع لفرانسا في أرض المغرب مثلُ ما قع لإنكلترا وأمريكا في (طوكيو) إذ يتخذ هؤلاء المسلمون مشردهم عدوَّاً لهم .
            « أنترك المغرب على ما هو عليه من طول سباته الذي تتوارد عليه جميع الحوادث السياسية أم لا ؟
            « بلى ، ولكن لا نعطيهم من العلم والمعارف إلا ما يكون لهم كافياً ليرضوا بمقامنا إلى جانبهم إلى الأبد . هذا والأجدر بفرنسا أن تحترم مبادئ قوانينها بالمغرب ، وذلك أننا كثيراً ما نقول إننا ما جئنا المغرب إلا لنمدِّن أهله ونسعى في ترقيته بدون فتور ولا انقطاع حسب الدرجة التي يكون قابلاً لها وتوافق فكرة المسلمين . وما نسعى فيه من تكثير عدد المسلمين بمعالجة أمراضهم أمرٌ يضيق لنا الرحب المعدّ هنا لفرانسا.
            « لا ، لا نسعى في هذا الأمر أبداً ، وإذا فعلنا وبالغنا في تعليمهم فإنما نحن جالبون على أنفسنا خطراً عظيماً يقف بوجه مهمتنا هنا .
            « الإسلام تهديد لفرانسا وخطر عظيم على نفسها ، لأنه لو انحاز المسلمون عن جانب فرانسا لكان في ذلك الضرر الكبير على قوَّتنا .
            « أليس من الواجب علينا إذن أن نقلل من درجة قوتهم وديانتهم الزاهرة التي تودُّ صعوداً وانتشاراً ؟ وإنا ليشتد خوفنا من اجتماع طوائفهم المختلفة يوماً ما على كلمة واحدة واتفاقهم عليها .
            « إلى الغافلين الذين لا يحتاطون لهذه الحالة أقدِّم كلمتي ، وهي أن لا يسعوا في تحديد شوكة يُصابون بها يوماً ما . ولا خشية لنا في ذلك لأنني ما عثرتُ قط في التواريخ على أن فرانسا حاربت إنكلتراً لتمنعها من هدم مستعمراتها [4] . وإلا فإني أرغب من أولئك العادلين الذين يودون تقديس عادات الأمة وحياتها أن لا يقوموا بمحاربة من لم يرضَ بسلطتنا  عليه ، لأن وجودنا بأرض المغرب هو معلوم لقصد قائدتنا الشخصية من أرضه ، وإذا كانت الفائدة هي التي تقود زمام أمة فكل شيء لديها مُباح ، والحرب أكبر دليل عليه .
            « وما هي حاجتنا بأرض المغرب إذا كنا نسعى بأمر ليس هو بالهيِّن في جلب عاقبة ليست بمحمودة النتئجة ، أو عملنا لنافع أمة لا تكون لنا مخلصة الود ، أو لمجرد نفع غيرنا من الأمم . وبعبارة أخرى أقول : إنه لا فائدة لنا فيما نتحمله في هذا القطر بإضاعة أموالنا وصرفها :
            « قال لي أحد الضباط في يوم من الأيام : (أن تعجب من بقاء بلاد الجزائر تحت سلطتنا فذلك لسبب انقراض جيل من أجيالها [5] ) ، وصدقاً قال .
            « وإني لأتي هنا بمقال الأب فوكول تأييداً للفكر ، قال :  لا يكون لكم المغرب مُلْكاً ما دام فيه المسلمون .
            « أقول هذا ويقيني بأنني ولو كنت عالماً بأن المسلمون سيطلعون على مقالي هذا ما غيَّرتُ من لهجته .
            « ماذا يطلب منا المسلمون ؟ إنهم لا يطلبون منا إلا أنْ نخبرهم بكل صدق وحقيقة ؛ ليتخذوا احتياطاتهم . وأنا كذلك لا أحب تلك السياسة  المموَّهة الخادعة الكذابة التي لا تريد أن تُغضِب أحداً من الناس بحديثها العذب اللين اللهجة مع جميع الناس وعند النتيجة يوم يكشف عن حقيقة سرِّها لا تحترم أحداً .
            « خلافَ هذه الفكرة أبغي ، وأودُّ أن نعامل المسلمين بالسياسة الصريحة اللهجة . لنصرحْ لهم : هل بوُدِّنا أن نَدَعَهم سائرين على أثرنا عفواً من أنفسهم ، أم سنرغمهم عليه قوةً منا . ولا نواري عنهم بأن سياستنا غير مرتبطة في شيء مع حالة الإسلام .
            « لماذا نقاصم المسلمين الجزائريين حقوقنا ، ونحمي المغاربة حماية ، بينما نقف بجانب الأمة التركية قرناً قرناً ، وهم منتمون إلى دين واحد [6] ؟
            « إذا تولَّت أمةٌ مقاليد أمة ثانية – ولو ضعيفة – فإنه لا بد من وقوع امتزاج واندماج فيما بين الفريقين . وفرنسا هنا بالمغرب لا يمكن لها أن تندمج بالإسلام ، كما أن الإسلام لا يقبل منها شيئاً خارجاً عن تقاليده . ولكن غاية الرجاء عندنا أن يكون المسلمون فيما بعد مظللين بجنسيتها كما هو عليه اليوم البرتستانيون والإسرائيليون [7] ، وبهذا يمكن لهم أن يعيشوا معنا جنباً إلى جنب .
            « أنا لا أتصور كيف يمكن لفرنسا مع المغرب أن يعيشا معاً وكل منهما على ملازمة أحواله وعوائده القديمة الممتازة وأفكاره المتباينة . وقد تدوم هذه الحالة ولكن إذا أيدتها القوة ، والقوة أمر لا بد من اضمحلاله ، وستحتاج فرنسا يوماً ما إلى جنود للمدافعة عنها ، فماذا يكون عملها يومئذ ؟
            « لماذا لا نحتاط لهذه الأسباب حاضراً ؟
            « لكن بقي علينا أن تقول هل في إمكاننا أن نستولي على قلوب المسلمين ونجلبها لجانبنا ؟ »
***
            هذا ما ختم به الكابيتان أدينو الفصل الرابع والأربعين من كتابه في الصفحة 208 دون أن يجيبنا على هذا السؤال . وقد طبع كتابه قبل سنتين (أي سنة 1347 [1928م]) عندما كان رجال فرنسا في المغرب يعملون على أن يكون جواب هذا السؤال بالعمل لا بالقول . وقد أجابوا عليه بعلاجين أحدهما لاستملة قلوب أبناء الجيل الآتي نحو فرنسا ، والثاني لإبعاد أبناء الجيل الحاضر عن الإسلام بتعويدهم على الزواج والمواريث وسائر الأحوال الشخصية على خلاف طريقة القرآن ، وبالإكثار من المبشرين في ديارهم ليلقوا على مسامعهم عقائد وتعاليم لا يبعد أن يستأنسوا بها مع الزمن ، وبإبعاد علماء الإسلام عن ديارهم . وكل هذا قد جرى . وأما إنشاء جيل نصراني فيكون بحصر التعليم للأطفال في مدراس الرهبان ، وتعويد الأطفال الصلاة النصرانية ، وتعليمهم تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم تعليماً أفظع وأشنع وأبعد عن الحقيقة مما يفعله « الفرير » و «الجزويت » في القاهرة التي هي عاصمة من عواصم الإسلام .
            بهذا يظن الكابيتان أدينو ويظن زملاؤه رجال السلطة الفرنسية في المغرب أنهم يستولون على قلوب المسلمين ويجلبونها لجانبهم ، وقد  أعدوا لذلك ألف مبشر ، وقرر لهم البرلمان الفرنسوي في العام الماضي الاعتمادات المالية اللازمة . وفرنسا الآن في بداية هذه التجربة . فهل يرضى بذلك حاملو لواء القيادة في الإسلام من علماء ووجهاء وحملة أقلام ومدرسين ؟ وما حكم مَن يرضى بذلك ؟
            كانوا ينتظرون المستندات ، فصرَّح لهم سعادة وزير فرنسا المفوَّض بما أثبت أن ما قالته الفتحُ صحيح . وكانت ساكتين لأجل أن نقدم لهم البراهين فنقلنا لهم أقوال رجل كبير من رجال السلطة الفرنسية في المغرب وسمَّينا لهم كتابه ، وأشرنا إلى أرقام صفحات الكتاب وإلى  تاريخ طبع الكتاب .
            فماذا ينتظر عظماؤنا ورجال القيادة فينا بعد هذا ؟

*  العدد 217 ، القاهرة : يوم الخميس 24 ربيع الثاني 1349 ، السنة الخامسة [ص 257 – 260].
[1]  الفتح – نعم ، ولكنها سفكتها أثناء قتل رجال المغرب وإبادة مجاهديهم .
[2]  الفتح – نعم ، ولكن لتستعبد به أوطانهم ، وتحرمهم نعمة استقلالهم .
[3]  نعم ، ولكن المؤلف سينصح ا لأطباء الفرنسيين في الصفحة 205 من كتابه بأن معالجة أمراض المغارية يكثر عددهم ويضيق الحرب المعد في المغرب لفرنسا .
[4]  ينبِّه هذا الفرنسي قوحه إلى اجتناب كل ما يقوي شوكة المسلمين من علوم إسلامية أو أوربية . ويقول : إننا إذا اضطهدنا المغرب لا نخشى أن تعارضنا دولة أخرى كالإنكليز لأننا لم يسبق لنا في التاريخ محاربة الإنكليز عندما يهدمون مستعمراتهم .
[5]  يريد الجيل الذي كان يعرف ذكريات جهاد الأمير عبد القادر ، وكان في قلوبه رجاء باستئناف الجهاد .
[6]  يتساءل هذا السياسي الفرنسي : كيف يجوز أن تتبع فرنسا سياسة صليبية مع تركيا في القرون الماضية لأنها كانت دولة مسلمة ، ثم يعترفون للجزائريين بحقوق ، ولأهل المغرب الأقصى بحمية ، مع أن الجميع أبناء دين واحد ؟
[7]  يقصد هنا اليهود في فرنسا (الفسطاط) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق